18 ديسمبر، 2024 11:53 م

البيروقراطية والروتين … أمراض الحكومات الضعيفة

البيروقراطية والروتين … أمراض الحكومات الضعيفة

فيما يقف العراق على ابواب نهضة عمرانية كبيرة وشاملة على الرغم من تأخر البدء بها لاسباب القليل منها مقنع والكثير منها غير مقنع ،ولكون هذه النهضة تحتاج الى حجم كبير من الكوادر والاموال والمخططات الادارية والمعدات الثقيلة، وقبل ذلك تحتاج الى وضع تصورات ستراتيجية لعملية الشروع، فأنها بالمقابل يجب أن تخضع الى وضع الدراسات وتحديد الافكار والتصورات واختيار العناصر الكفوءة والمستعدة للقيام بهذه النهضة التنموية، التي على اساسها سيكون العراق او لايكون..وعليه فأن انجاز هذه المهمة الوطنية التي انتظرها وينتظرها العراقيون ينبغي ان تسير وفق منظور فهم الدولة لطبيعة ونوعية الانجاز الذي سيعتمد على كفائة وخبرة وتجربة الكادرالوظيفي العراقي، ومدى قدرته على التضحية والايثار، وتقبل الاراء والتفاعل  معها بأيجابية وبحس ومشاعر نفسية انسانية ووطنية ، والانخراط في مفردات العمل اليومي الجمعي بالتجاوز على نكران الذات اولا ،والتخلص من النزعة الفردية المتسلطة في العمل .. والتي تعني فيما تعنيه بالبيروقراطية التي اصبحت وللاسف هي السمة السائدة في معظم تعامل الموظفين مع المواطنين المساكين في حدود انجاز المعاملات البسيطة التي لاتحتاج الى تعقيد او تأخير .
 فكيف اذا سنبني العراق بروح متحضرة ومتحررة من قيود الذات المقيتة ؟
وكيف نستطيع التخلص من الروتين القاتل الذي يحكم الدولة ويهيمن على كل مؤسساتها؟
وماهي سبل القضاء على مرض البيروقراطية التي هيمنة على سلوك معظم الموظفين؟
ففي الوقت الذي بدأت العديد من الدول بممارسة العمل في ما سمي بالحكومة الالكترونية بعد ان تركت كل المعاملات الورقية والاضابير والمستندات ودخلت فعليا في حيز الانجاز التقني الامر الذي مكن المواطن من انجاز معاملته وهو في بيته، نجد ان العمل في مؤسسات الدولة مازال يعتمد على اكداس من الملفات الادارية واطنان من الوثائق واكوام من الاضابير والاوراق التي هي بمثابة ارشيف الدولة وكل مايتعلق بحياة المواطن، الذي ظل يتعامل مع الروتين اكثر من تعامله مع الموظفين، وفي ذلك اهدار للوقت وحرقا للاعصاب، اضافة الى تحكم الامزجة البيروقراطية في ابتكار الاساليب الادارية المعقدة والمرتبكة والتي غالبا ماتعرض المواطن للاستفزاز والاذلال وكأنه عبْ على الدولة لا جزء من الدولة، وهو يتلقى سيل من الحجج والمبررات الامنطقية التي تعطل انجاز ماجاء من اجله مثل ..انتهى الوقت المخصص لاستلام المعاملات ،الموظف المسؤل غير موجود ،السيد المدير لديه اجتماع ،المعاملة بحاجة الى تدقيق مرة اخرى ،اجلب البطاقة التموينية ،اجلب الهوية ، اجلب الجواز ..وتطول الطلبات وتمضي الايام والمعاملة في مكانها ،بالمناسبة .. اصبحت البطاقة التموينية اهم من هوية الاحوال المدنية ، لماذا ؟ لانعرف ،مع ان تزويرها اسهل بكثير من هوية الاحوال!.. ومع ان قرارا قد صدر من مجلس الوزراء بعدم اعتماد البطاقة التموينية في المعاملات ، المهم ..هذا هو الاسلوب الاداري ، وهذا هوالسلوك الوظيفي ،لاخيار الا تقبل الامر وتحمل كل التبعات .
نعود الى البيروقراطية والتي اصبحت عبارة عن تنظيم داخل جسم الدولةغير معرف بهوية سوى انه سلوك استشرى وانتشر لدى بعض ضعاف النفوس من الموظفين الذين اعتبروا ان القوة والبطش والتعالي هي وسائل التعويض عن الفقدان والتستر على الجهل الامر الذي يؤدي بالضرورة الى خلق شخصيات جديدة انتمت الى هذا الاتجاه غير قادرة على تصحيح السلوك عن طريق تدارك اخطائهم السابقة التي اعتمدوها في التعامل مع الاخرين والتي غالبا ما استخدمت من قبلهم لتحقيق اغراضهم الشخصية والنفعية على حساب غايات المواطن الذي استغلت حتى شرعيته وقانونية كينونته ، ساعد على ذلك اهتمام الدولة بالجماعات التي تؤدي الوظائف اكثر من الاهتمام بالوظائف ذاتها . اننا امام شبكة عنكبوتية تتحكم من خلال بعض الموظفين المستبدين بالاساليب الا دارية والخدمية في محاولة لعرقلة نمو وتطور الدولة والمجتمع وصولا الى تضيق النطاق على الحرية الفردية في ظل ظروف اجتماعية مرتبكة وغير موجهة بالاتجاه الصحيح، لكي يتم منع كل الابتكارات الادارية والتقنية والخدمية الحديثة كي لاتكون في المستقبل بديلا عن وجودهم.
 لقد امتلكت هذه الفئات القدرة على معرفة دهاليز اسرار الدولة بحكم وجود بعض المتنفذين منهم واصبحت تعرف ايضا كيف تصل الى كل الملفات السرية من اجل ابرام العقود وعقد الصفقات غير مبالية بالقيم الاخلاقية او المبدئية ولا تعترف بالاحكام القضائية او الدينية ، فلديها القدرة العجيبة لان تجعل من الحق باطلا ، ومن الباطل حقا . طبعا لايخفى علينا ان نذكر ان من بين اهم اهداف هذه المافيا هو اهدار الوقت وشرعنة الترهل والسير بالاتجاه المعاكس ومحاولة النيل من كل الكفاءات وتحطيمها بهدف خلق حالة من الفوضى المتعقلة التي لاتلفت الانتباه اولا، وتجعل من كل كيانات الدولة في حالة ارتباك دائمة ثانيا..
على اساس ذلك وقبل الشروع بالبناء والاعمار على مستوى التنمية ، على الدولة ان تشرع باعادة اعمار وبناء الهكلية السلوكية للكادر الوظيفي الذي سيكون هو الاداة الفعلية للتنمية والانماء .وان تعمل الدولة ومعها الحشد البشري وفق مبدأ :ان لاوقت في العمل الا للعمل ، يرافق ذلك سلسلة من الاجراءات التي تحد من تلك الافات التي تم التنويه عنها اعلاه على سبيل المثال لا الحصر:
ضرورة التفكير باستحداث اجهزة للاصلاح الاداري وزيادة انشطتها من اجل ايجاد الحلول لكثير من المشكلات الادارية الناجمة عن تفشي ظاهرة البيروقراطية ، على ان يجري اختيار عناصر هذه الاجهزة ممن يتمتعون بالكفاءة والخبرة في مجال تخصصهم وعملهم الاداري …
 استخدام التقنية الحديثة وتدريب الكادر عليها وتسخيرها لمتطلبات العملية الادارية وفعاليتها ، والعمل بأسرع وقت ممكن للبدء بأنشاء الحكومة الالكترونية وتعميم هذا الاجراء على كل مؤسسات الدولة لا على مستوى العاصمة فحسب ، وانما على مستوى كل محافظات العراق،  …
 توسيع ورش العمل ومجالات التدريب والقاء المحاضرات بشكل جدي ومكثف حول كيفية التعامل الشخصي والاجتماعي لمختلف مستويات الكادر الوظيفي وبالاخص الذي هو على تماس مباشر ويومي مع المواطنين وان يدركوا ان ادائهم العملي يجب ان يتحلى بالتواضع …
 مراقبة السلوك المنحرف ، والمبادرة فورا بتقويمه بالطرق العلمية الصحيحة . وتنمية الروح الوطنية وتشجيع المبادرات الخلاقة التي تهدف الى رفع مستوى الانجاز وتحسين نوعيته ومحاربة الفساد والاثراء غير المشروع والقضاء على الروتين بكل الوسائل المتاحة …
 التأكيد على ان الوطن لخدمة المواطن طالما كان المواطن في خدمة الوطن ، وان الانسان هو الغاية وهو الهدف ، وان الواحد للكل ، والكل للواحد ولا فرق بين هذا وذاك الا من يتميز بالكفاءة والقدرة ، اذ تعطى له كل الفرص من اجل تطوير قابلياته نحو الاحسن والافضل  …
 هذه افكار ، ليست بالضرورة ان تكون ملزمة ، وليست هي الوحيدة التي من خلالها نستطيع ان نصلح كل شىْ ، لانني على ثقة مطلقة بأن العقول العراقية والكفاءات الوطنية تمتلك الاكثر والانضج مما تم ذكره، فيما لو اتيحت لها الفرص الصادقة والجدية لان تساهم وتشارك في عملية البناء.
يقول ماكس فيبر عالم الاجتماع الالماني معرفا المؤسسة المثالية : هي حالة الوصول الى مؤسسة تكون فيها علاقات السلطة مدروسة بأسلوب علمي ، ومقرة كتعليمات رسمية ملزمة للجميع ، ويعمل الكل على تنفيذ هذه التعليمات مما يحقق الاستقرار والثبات لهذه المؤسسة ، حتى لو تغير افرادها جميعهم .
عليه يجب ان تتمسك الحكومة بقوة قراراتها ،وأن لاتضعف او تتنازل من اجل مصالح مهما كبر شأنها ،فهي حتما ستبقى اقل بكثير من الشأن العراقي ، ذلك ان كل التعاقدات او الصفقات ستبقى في حيز محدود ووقتي هدفه تحقيق منافع شخصية وذاتية على حساب الدولة ومصلحة الشعب ، مما يضعف ويقلل من هيبة وقوة الدولة ، الامر الذي ينعش وينمي البيروقراطية ويقويها الى الحد الذي تستطيع من خلاله ان تأكل جسد الدولة وتجعلها ضعيفة واهنة لاتقوى على الحراك بأنتظار لحظة الموت لاسامح الله !! .

كاتب ومحلل سياسي-عمان