19 ديسمبر، 2024 6:44 ص

المكان بتحولات اللقطة ..في (ثُؤلول ) للروائية ميس خالد العثمان

المكان بتحولات اللقطة ..في (ثُؤلول ) للروائية ميس خالد العثمان

إلى عقيل عيدان ..
هذه رواية لاتعظ ولاتثبّت فكراً آيدلوجيا ،هي رواية إنطلقت لتفسح المجال كي يقال ماجرى ،إذن هي الرواية / الشهادة عن مرحلة تاريخية ، يفترض أن تكون قد أحدثت رضة ً في الوعي الاجتماعي ..وهذه الرواية تمتلك آليات تحقيق الجذب و تمتلك قدرة التنظيم الذاتي ،فالنص يراقب نفسه ملقيا شبكة الاقتصاد الأسلوبي على تحركات الكائن اللغوي ، وتوظيف الإحالة التكرارية حيث تعود الساردة بين الحين والآخر الى الموقف المتخاذل للعائلة أو تكرار مفردة (هواء) وتنويعاتها .. والأهم هو التكرار الثالث (ابن الغريب ) ثم الانتقال من الصفة (الغريب ) الى اطلاق إسم ذلك الغريب في وجه أمها !! فالتكرار (يحقق إنسجام النص لمافيه من تشاكلات وفيض دلالي / 190- محمد مفتاح ) الأهم هو علينا ان نعي جيداً : هي رواية أنثى/ طفلة صيرتها الحرب / العائلة : إمرأة ً وأماً بالإغتصاب وتعاملت معها عائلتها المتخاذلة بعنف من طراز إستثنائي !! وهي رواية الأنثى التي عرفت كيف تستعيد إنسانيتها وتخيط بيديها جرحها المؤدي إلى ، تكسير العمود الفقري لروحها :(يومها قررت بأن أحمي نفسي التي تشوّهت بالضياع كي لا أتمرغ في الجحيم أكثر ، وكي لاأصاب ببلادة فجائية ،ولاأضيع في مساحات جديدة من الفراغ ، وكي لاتظل تلك اللقطات المزعجة تركض في أسلاك عقلي ،كنت أحتاج لضماد إنساني يحتويني ،يلّف رأسي ويحميه من فوضاه الرهيبة ،كنت أحتاج وبشدة لأن أقفز للضفة الأخرى من الدنيا، بينما أتحاشى السقوط في الصورة الكبيرة التي رسمها لي القدر ./ 96) ..ومن خلال الجلسات السريرية النفسية ،صنعت لنفسها سلّما وانطلقت من قعر البئر الموحشة ،إلى الهواء الطلق .حقا أن سلوى تستحق مرتبة البطولة ،فقد ثأللتها عائلتها و تركتها تخوض معركتها الفردية ،على مستوى شخصها ووعيها الإجتماعي الفردي .
(*)
تبدأ الرواية بعتبة نصية ( ص9-10) تشتغل العتبة بوظيفة: مقدمة غير معنوّنة للرواية ، تحتوي المقدمة : خلية سردية موقوتة يكتنفها غموض شفيف ،فعل القراءة سيؤدي إلى تشظية الخلية على مدى ينطلق من ص 11 ويكتمل في ص 217، نهاية الرواية .
(*)
من قسمين ، روزنامة الرواية :
قسم مرّتب يبدأ من (1988- 1989/ ص11) وينتهي في (صيف 1995/ ص92)..وينقذ الرواية من متواليات السرد الأفقي ، في ص93تعلن المؤلفة ميس العثمان : (سأقفز بين السنوات بلا تسلسل منطقي بالنسبة لكم ،غير أن رابطاً يتماهى وتاريخ البطلة سيوصلكم للحقيقة ،فأغفروا لي ) والسؤال هنا : هل رابط التماهي التاريخي وحده السبب ؟ ألم يكن السرد يقفز كالكنغر من شتاء 1992 الى صيف 1995؟ أليس المفروض ان يكون تنويه المؤلفة مع القفزة الزمنية السابقة أعني من شتاء 92 الى صيف 95؟
ربما هناك جواب حذفته المؤلفة ،وقد يكون جوابها مجاورا لهذه الصيغة : مابعد صفحة تدخلي الشخصي كمؤلفة ، سأنقل بطلة روايتي ّمن المغلق إلى المفتوح / المغلق أعني عيادة الطبيب النفسي ..وسيكون تعقيبي كقارىء منتج على جوابها كالتالي ، دعي القارىء يشارك في كتابة النص ما المبرر لهذا الفاصل الإعلاني المطبوع بالحرف الطوخ ؟
(*)
هناك تقسيم آخر للرواية يتم فيها إنتقال الكينونة من اللامرئي الى المرئي : (أنا كائن لامرئي .كائن ٌ شفاف ٌ لايترك وراءه ُ إلا الخيبة والسؤال ،مزيج من هلام ./9)..وتستمر هذه الكينونة اللامرئية ، على مسافة سردية يبلغ طولها 150 صفحة، ثم ترتقي هذه الكينونة الى صيرورة شجاعة وثّابة وبشهادة سلوى نفسها (كنت مستمرة ً في بحثي عن شيء ضاع مني في سواد ليل بعيد ومتأكدة الآن بأن الخوف ليس في قائمتي صرتُ شيئا مرئيا..كنت ثؤلولا زائدا عن جلدهم ملتصق بهم رغما عنهم ../151)
(*)
سرديا ..نقرأ نوعا سرديا واحدا لكن بتوفر جهتين : السرد الأول يصلنا مباشرة ، ومع ص95 يكون السرد، تجاه الطبيب ونحن القراء ،بمثابة طرف ثالث ..والسرد بجهتيه : ينبجس ُ من دفتر مذكرات كوعاء روائي ..
(*)
هناك مثنوية في جهوية السرد : الله / الوطن
(في العمر المرتبك المنذور للاكتشاف ، امتلأت قلوبنا اليافعة بمحاولات جديدة لفهم ،، الوطن ،، و…
،،نُفِخ َ في الصور ،، فعلا !
لكن النفخ جاء مبكراً، ولم تقم ،،القيامة ،، نهار جمعة كما أخبرتنا معلمتنا .
بل فجر الخميس 90
يومها ،نظرنا سحر وأنا صوب الله، وبحنق سألناه :
،،لم َ لمْ تمنعهم ،، ؟!
استدركنا /استذكرنا دروس ،، الفتوحات ،، /14- 15)
(*)
تشتغل الرواية على التاريخ وتفّنده وصولا الى وهم التاريخ ..(كيف نودّع المدرسة قبل شهرين حين كنا نصيح ُ،، تحيا الأمة العربية ،، شعاراً يوميا نهز ّ به أركان المدرسة ونؤلم حناجرنا الصغيرة لنُرضي الناظرة وتستطيل ابتسامتها، واليوم نزجي القلق ..برسم خارطة الوطن تنزف دماً ونبكي خديعتهم الصريحة لنا./ 15).. وهي في الحالتين تكّثف جملتها السردية وتجعل فعل القراءة لايتوقف
لكن هذا الفعل يضيق نَفَسَه ُ فسقف الفضاء الروائي خفيض جدا والقارىء المنتج يحتاج هواءً غير مستعمل فستعفه الرواية بهواء ، له وظيفة إحالات تكرارية :
* (مع دميتي الباربي بشعرها الأشقر اللامع الذي أظل أمشطه حتى تلتصق رائحة النايلون في هواء الغرفة / 22) : مايعكر هواء الغرفة ،يعكس الحالة النفسية لسلوى
*(للحروب رائحة أميّزها جيدا .تعلق في أهداب حواسي ، أشمها كلما أستنشقت ُ هواء الشباك منذ أسابيع مضت ،رائحة معدنية القسوة / 133) ومايعكر هواء المدينة : غبار الحرب ، بعدها تكون سلوى في هواءٍ جديد
*(هل كان الهواء حقاً يٌمسّد على كتفي وأنا أنتظر ُ واقفة ً في ظل المحل / 127)
*(أنهض وأفتح شباكاً لهواء آخر آذار ../145)
*(حينها لم يقلقني أن يُنشىء جابري مدوّنته الشخصية ليتنفس عبرها هواءً أخف ! أسميناها (هواء نظيف/ 158-)!
*(في غرفة سالم التي فُتحت للهواء والضوء…/190)
*(كان الله قد لطّف الهواء وأرسل الغيم في تلك الجلسة…/210)
(*)
يستوقفني إهداء الرواية (للأنثى ..التي تولّد وبين عينيها وَسم ُ مصيرها القادم ،بلا معجزة تغيّره ) هل الرواية ، يمكن ان تنصّف ضمن تحديات (الجندر) ؟ فالإهداء يحذف الشخص ويثبّت نوع الجنس (للأنثى) . هذا الهدب من أهداب النص ،أعني الإهداء – بحسب جيرار جينيت – يحتوي على خلية سردية موقوتة ،ستتشظى عبر المسافة السردية الممتدة من (ثريا النص ) إنتهاء بالمسطور على قفا الرواية ..
(*)
الرواية من ناحية الشخصية المحورية ، تعيدني الى رواية الشخص الواحد ، وبقية الشخصوص بوظيفة نيران الإسناد التي توفر سلامة الحركة لهذه الشخصية ،هكذا نجيب محفوظ في رواياته (اللص والكلاب )( السمّان والخريف )(الشحاذ) المتبقي في ذاكرتي كقارىء : سعيد مهران – عيسى الدباغ – عمر الحمزاوي .كل منهم يحمل صليب التضاد الاتصالي بين أناه ومجتمعه ُ
(*)
سلوى : هي ( طفلة لبست ثياب السيدات على عجل ، بل ..على حين سقطة ../ 23) ..وقبل ذلك هي الكائن اللامرئي بالقوة وهي الثؤلول ../ 9 وكذلك : هي الفراشة المخذولة في لحظة تغيّب الغيرة العائلية ، في الذود عن شرف العائلة ، وفي داخل البيت نفسه ،حيث جابهت سلوى مصيرها (وحيدة / مشدوهة ،وغيبهم الخوف من العسكر ../25)..الآخرون ومنهم ، صديقتها سحر (سافرت وأسرتها ،لأن والدها خَشِي عليها ./16) أما عائلة سلوى وبشهادتها (وبقينا نحن نحرس هذا التراب ونجاهد لحماية
قلوبنا وما خاف أبي عليّ أبدا، بل كان خوفّه على الكويت أكبر ،صوته يرد هادئا على قلقي لسفر صديقتي ،، ربنا معانا مايخلينا ،خلهم يسافرون ،، )، لكن الأب لم يكن ممن يتصدون للغزو العراقي لدولة الكويت ، فأي حراسة قام بها؟ وعلى مرأى الأب والإبن والأم أغتصب عسكري عراقي ابنتهم سلوى ص17ولم يتصد، أي منهم للدفاع عن شرف العائلة !! مَن تخلى ..؟ الله عن عباده ؟ أم الوطن الذي غادرته الحكومة سريعا ليحكمه غزو صدام ؟ وبشهادة سلوى أيضا (وحدي أحمل مراهقتي وأغرق بين مفردتين كالسديم في حينها، ،،الله،، و،،الوطن ،،
(*)
سيشتغل السرد علاماتيا مكثفا هامسا بحجم صرخة مدوية :
*فرغ َ اللون الأحمر من أقلام تلويني، كما جف الدم في عروقي حين باغتنا العسكر ../ 17
*وعلم الكويت لايكتمل ، ضاع اللون الأحمر من علبة ألواني من روحي ومن ..طقسي الشهري /19
*ثم سيتحول اللون الاحمر شالا ، تفقده سلوى في أحلامها ..(يتكرر هذا الحلم ،يتفنن في الظهور والتشكل واختلاف بعض التفاصيل ،غير ان الوشاح الاحمر علامة أكيدة لاتغادر الحلم ، إلا على نهاياته، فيضع مني ،يتسرب بشكل لامفهوم من كفي ويؤذيني جداً../ 95)..شفرة الوشاح : شفيفة، نجد مفتاحين ،في الوحدتين السرديتين السابقتين ..والقوة المتنامية في سلوى سوف تجعلها بعد ذلك ،تصغي إليه أغنية نجاة الصغيرة :(لمن صباي لمن ،شال الحرير لمن /128)..
(*)
يرى بيار بورديو ،أن العنف يبدأ من المدرسة: (كانت معلمتي صارمة مثل تمثال شمعي /11) ومن هذا التمثال الشمعي ،ينطلق البث المرتبك ، صوتيا (تلفظ بصوتها المرتجف بالرهبة اسم الله – جلّ جلالة – بشاميتها الغريبة على مسامعنا الطرية ) والإرتباك سبب نغمة الصوت وإختلاف اللهجة ، فهي من الشام والطالبات كويتيات .وهذه المعلمة تنتقل بتلقينها من الواقعي الى المسرحي (وباِصبعها الذي لابد أن يشير نحو،، الأعلى ،، بحيث صرت ُ أطيل ُ التأمل في سقف غرفتي طارحة عليه الكثير من أسئلتي الطفلة وأنتظر الإجابة ، لأن المعلمة تؤكد، يقول الله – جل جلاله – لعباده ،،أدعوني استجب لكم ،، /12) نلاحظ ان خطاب المعلمة ،يشوش العلاقة بين مخلوق / خالق ،وتستعمل النص المقدس بطريقة لاتراعي وعي طالبات في بداية العقد الثاني من أعمارهن ، من أشكالية التلقين ، أستلمت سلوى : خطاباً مشوشا ، تحول يوم الجمعة من يوم عطلة الى ،،يوم القيامة،، ينفخ في الصور (إذ أكدت معلمتنا أنه ،، وعد الله ، الآت بلا ريب في يوم الجمعة ،يوم عطلتنا الأسبوعية وراحتنا ../12) ..هنا التلقين المدرسي مَسَخ َ الطقوس الدينية : عقوبة ً ، لافروض محبة بين الخالق / المخلوق :
(كنت أصحو مرتعبة كل جمعة .أغسل جسدي بالماء – دون أن أدقق النظر بتفاصيله – كما حذّرتنا معلمتنا ،ثم أضع وشاح الصلاة الزهري وأحاول كثيرا الخشوع ..ولا أقوى! /13) وتتحول الصلاة عقوبة مدرسية (كنت ../ 13) ومع وصولها للتشهد الأخير..تعلن (أنني فقدت ُ اتصالي مع ،،الله ،، وأفزع !) ثم تهرع سلوى وهي بثوب صلاتها ، تطير للشباك وتتوسل الله (يا إلهنا الكبير ، أجّل يوم القيامة ،لأنني خائفة جدا ، هل تسمح ،، ؟) نلاحظ من خلال كل ذلك غياب دور الأم في البيت ،أعني
أم سلوى ودور والدها في تنمية وعي سلوى الديني ..كما نلاحظ ان خطاب المعلمة الشامية متأسلم ويبّشر بإسلام سياسي ، في بيوتاتنا تلقينا الدين بسماحته ومرونته وعوائلنا ، كانت ترغبنا بوسائل ميدانية عائلية ، لاتهدد بالنار أو ترعب ليلنا بمنكر ونكير ، لم تتشدد معنا في إداء الفروض ، فتقبلنا الفروض مع تنامي وعينا الاجتماعي ، لكن نقلاً عن الساردة : أن المعلمة برهابيتها النفسية لوثت ،مفهوم العبادات عند الطالبات ومنهن : سلوى .
(*)
إلتقط هذه الوحدات السردية ذات الإحالات التكرارية ، فنحصل على درس سرد بليغ /متماسك ، في بث نظام معلوماتي على جرعات :
*يركلني طفل ،،الغريب ،، وأخجل من التصريح لأمي / 19
*أخاف من جنيني وأخشى عليه ، فأي ارتباك هذا !/21
*بينما يركلني ابن الغريب وينبهني غيرة ً؟ / 23
*سأنجبك يا ابن الغريب ! رُغمّا عنهم، وعن ضيقهم مني ./ 25-26
*ممتلكة ليقيني /جنيني الذي سيكبر يوما ويحرسني من ضيم / عار أسرتي ،من مقتها وجُبنها كل العمر /27..لكن حين تنجب الطفل ، ستعلن سلوى عن اسم العسكري الغريب الذي أغتصبها (وهي تنظر لوليدها تمتمت ُ بهدوء بينما أنظر للطفل : يشبه إياد
وأتذكر شهقة أمي جيداً، ضربت صدرها مثل مكلومة : من وين تعرفين أسمه
أجبتها بهدوء : نادى عليه صاحبه حين انتهى مني ..وحين كنتم تلوذون بخوفكم بعيداً عني../ 60)
ثم تخبر أمها (سأسميه جابر ). وإطلاق هذا الاسم على الطفل اللاشرعي ،يحمل طبقات من التأويل وإساءة التأويل ، بحسب سوزان سونتاج ..
(*)
هي رواية طفلة أقتحمتها الحرب ،وتخلت عنها العائلة وزيف وعييها التلقين ، لكن الطفلة التي صيرتها الحرب إمرأة وأم بالاغتصاب ، عرفت كيف تستعيد إنسانيتها، من خلال الازدواج القيمي للمعرفة : فعل القراءة / العلاج السريري ..
*ميس خالد العثمان / ثُؤلول / دار العين للنشر / القاهرة / 2016
*محمد مفتاح/ المفاهيم معالم / نحو تأويل واقعي / المركز الثقافي العربي / بيروت/ ط1/ 1999
*مفهوم الرضة ، أقترضته من الناقد والمفكر جورج طرابيشي وتحديدا من (المرض بالغرب – التحليل النفسي لعصاب جماعي عربي / رابطة العقلانيين العرب / دمشق / ط1/ 2005
*ثريا النص / مدخل لدراسة العنوان،من تأليف الاستاذ القاص والروائي محمود عبد الوهاب/الموسوعة الصغيرة / العدد- 396/ سنة 1995/ بغداد – دار الشؤون الثقافية

أحدث المقالات

أحدث المقالات