آيات القرآن ككل مؤلف صادر من إنسان فيه ألغث وألسمين، فيه آيات بليغة وفيه آيات غير بليغة. فآيات القرآن ليست كلها في الذروة العليا من البلاغة، بل يقع بينها التفاضل، فمنها الأعلى ومنها الأوسط ومنها دون ذلك. وقد أصاب الشاعر الفارسي في إنكاره التسوية بين قوله: ( تبت يدا أبي لهب )… سورة المسد، الآية -1، وبين قوله: (وقيل يا أرض أبلعي ماءك ويا سماء أقلعي ) … سورة هود، الآية-44، إذ قال: ” كي بود تبت يدا مانند يا أرض أبلعي ماءك “، أي كيف تكون تبت يدا أبي لهب مثل يا أرض أبلعي ماءك، إشارة إلى ما جاء في سورة هود عند ذكر الطوفان.
لاشك أنّ البلاغة من التبليغ، كما ذكره الجاحظ في ” البيان والتبيين ” فالمقصود من جميع طرق البلاغة ومناحيها هو الوصول إلى إفهام المعنى للمخاطب على وجه يكون أحسن وقعا في سمعه وأشد تاثيرا في نفسه، فكل من أستطاع أن يٌفهِم مخاطبه المعنى الذي حاك في صدره وجال في خاطره باسلوب من أساليب البلاغة فهو بليغ وفي كلامه بلاغة. فالإفهام هو المحور الذي يدور عليه فلك البلاغة، والكلام يبعد عن البلاغة قدر بعده عن فهم المخاطب ويقرب منها قدر قربه منه، ولا يماري في هذا إلا معاند.
إنّ آيات القرآن متفاوتة في بلاغتها، بل فيها ما لا يتماشى مع البلاغة، بل فيها ما لا يتماشى بظاهره مع المعقول. فمنها ما هو غير مفهوم، ومنها ما لا يبلغه الفهم إلا بتاويل وتقدير. وليس هذا القول ببدعة، فالقرآن نفسه قائل بذلك ومعترف به. ففي سورة آل عمران: ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات )… ألآية- 7.
والمحكمات هي التي أحكمت عبارتها فلا يتطرقها الإحتمال فيكون المعنى فيها مفهوما وصريحا، والمتشابهات هي ما ألتبست في معانيها فلا يكون المعنى فيها صريحا ولا مفهوما. والاصل في التشابه هو المشابهة، يقال: تشابه الرجلان إذا أشبه أحدهما الآخر حتى ألتبسا، لأنّ شدة المشابهة تؤدي إلى الإلتباس ولذلك أُستعمِل التشابه بمعنى الإلتباس.
وإليكم بعض ألأمثلة للآيات التي لا تتماشى مع البلاغة:
1- مثال على عدم معقولية ألآيات ومنافاتها للمنطق:
جاء في سورة ألإسراء، ألآية – 16 قوله: ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليهم القول فدمرناها تدميرا ). إنّ ظاهر هذه الآية غير معقول، أولا: لأنّ ألله أمر المترفين بأن يفسقوا ففسقوا وذلك لا يجوز لأنّ فعل القبيح مستحيل على ألله، فقد جاء في ألقرآن قوله: ( قل إنّ ألله لا يأمر بالفحشاء ) … سورة ألأعراف ألآية 28.
ثانيا: إذا كان هو الذي امرهم أن يفسقوا كان فسقهم طاعة له وإمتثالا لأمره، فكيف يستحقون الإهلاك؟
ثالثا: إنّ الإهلاك بالتدمير قد شمل أهل القرية كلهم، وإنّما المجرمون منهم هم المترفون الذين هم يمثلون الأقلية من الناس في كل زمان ومكان، وليس هذا من العدل والله يأمر بألعدل وألإحسان ( إن ألله يأمر بالعدل وألإحسان وإيتاء ذي ألقربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلك تذكرون ) … سورة ألنحل ، ألآية- 90.
إنّ علماء ألتفسير قد أولوا الآية تفسيرات بعيدة فقالوا: إنّ الأمر هنا مجاز وإنّ معنى قوله ( أمرنا مترفيها ) أي أنعمنا عليهم نعما كثيرة فجعلوها ذريعة إلى المعاصي، فكأنّهم مأمورون بذلك. ولو كان هذا الكلام في غير القرآن لما تكلفوا له هذا التأويل البعيد بل رفضوه وما قبلوه.
ولو سلمنا صحة هذا التأويل فما ذنب غير المترفين؟.
إنّ في هذه الآية قراءة أخرى يستقيم بها المعنى من بعض الوجوه، وهي أمّرنا المترفين ( بتشديد الميم ) من الإمارة أي جعلناهم أمراء، ففي هذه القراءة إصلاح للعبارة وتصليح للمعنى، لأنّ أمراء الناس مسببوا هلاكهم في كل زمان، والظاهر أنّ الذي حمل القاريء على قراءته هو ما رآه في القراءة الأولى من أنّ المعنى غير معقول، فقرأ أمّرنا بتشديد الميم لأنّهم كانوا يقرأون القرآن بالمعنى، فكل ما صح به المعنى فهو قرآن عندهم وليس الذي قالوه في تعدد القراءات إنّها توفيقية بصحيح.
للموضوع صلة.
مصادر البحث:
– الشخصية المحمدية أو حل اللغز المقدس ….. ألشاعر معروف الرصافي.