ثورة كولان منعطف تاريخي كبير في حياة الكورد، إذ قلبت موازين معقّدة خلقتها ظروف قاسية مّر بها الكورد، بل لعل عوامل القساوة تلك من أسوأ ما واجه الكورد في عصرهم الحديث.كثيرة هي ثورات الكورد وانتفاضاتهم ، فسجلات تاريخ المنطقة تعج بها في مختلف الحقب ، لتؤشر جملة حقائق أساسية تبين مدى الحيف والظلم الذي تعرض له الكورد، منذ الاجهاز على حقهم التاريخي الموثق في معاهدة سيفر عام 1921 ، التي نصت على حق تقرير المصير بعد عام من أعلانها ، لكن لعبة المصالح والاهواء الدولية قلبت المعادلات عبر التنكر للمعاهدة المذكورة ، وخلقت ظروفاً اكثر تعقيداً في مجرى الكفاح والنضال الكوردي .
في حقيقة ساطعة أن الكورد مكون حيوّي لعب ويلعب دوراً اساسياً ليس على المستوى المحلي ، وأنما على مختلف المستويات الاقليمية والدولية ، ويعدّون عاملاً أيجابياً في صناعة السلم والتعايش بين شعوب المنطقة ، فهم ميالون لها بكينونتهم وفطرتهم لأنهم مجبولون على حب الحرية ، التي تشكل إحدى اساسيات حياتهم وفهمهم لمنطقها، اورثتهم فلسفة الحياة التي تحفل بمفردات منظومة إخلاقية وقيمية متعددة الجوانب في ألوان الخير والمحبة والتعاون ،وتجد لغة التسامح وأحترام الاخر بابعاد الترفع عن الاحقاد والضغينة والتعامل بالمثل على اساسهما في صورة نادرة ، ما يؤكد حبهم للتعايش لأن الحياة لا تعاش بالاحقاد التي هي أساس البلاء في كل الأشياء.
في حقيقة اخرى، إن الكورد رابع أكبر قومية في الشرق الاوسط ، ليس لها كيان قومي ، في حين إن هناك كيانات قائمة قد لا يمكن لها إيجاد وجه للمقارنة بينها وبين وضع الكورد، و يّعد التاريخ النضالي والكفاحي للكورد واحداً من اطول مسارات الكفاح في التاريخ الحديث ، أذ امتد نضالهم وكفاحهم لأكثر من قرن ، وهو ما يبين جانباً من التعقيدات الجيوسياسية المحيطة ، فضلاً عن أشكال الظلم والقمع والإبادة الجماعية التي تحطمت على صلابة العود النضالي وقيادته الحكيمة ومراسه الثوري ، أذا لو تعرض أي شعب لما تعرض له الكورد ، فأن أحتمالية بقائه قد يكون من أصعب الأمور ، ويمكن أن نضيف عاملا آخر يتعلق بالمعادلات القائمة وإشكالاتها في التعاطي الاقليمي وكل ما يطرح من قضايا في أبعادها ومصالحها ، هي ليست بالضرورة أن تكون محل اتفاق بين الجميع ، لأن لأي منهم وجهة نظره المشروعة فيما يراه ويختاره ، وما يترتب على ذلك من مسافة حيال هذه القضية او تلك .
وهناك حقيقة دامغة تتعلق بحق تقرير المصير، وهو حق مكفول بموجب الشرائع الدولية ، فكل شعوب المعمورة التي نالت حقها عبر هذا الحق الذي يعده بعضهم حقا إذا تعلق الأمر به ، ويراه غير مقبول أذا تعلق بالآخرين ، وهي تراكمات فلسفة شوفينية تسببت في صراعات وتناقضات دمرت المنطقة والشواهد كثيرة لاتبعد عن حاضرنا كثيرا ، والكورد لا يختلفون عن غيرهم في نشدان هذا الحق الذي سينالونه عاجلاً ام آجلاً ، وهو ما يقتضي تفهم حقائق جديدة من أجل رسم صورة المستقبل ، بما يعزز مصالح شعوب المنطقة وأمنها وجسور المودة والبناء بينها بعد تغير المناخ الدولي وطبيعة المشكلات والتحديات القائمة.
ثورة كولان هي الوعاء التاريخي لجميع الثورات والانتفاضات ، ولئن استطاعت ثورة أيلول بناء إستراتيجية واضحة عبر منظومة سياسية وفكرية وعسكرية واقتصادية متناغمة ومتجاوزة لأطر التحديات المختلفة ، فقد رسمت خطاً سياسياً ومنهجياً
إستطاعت ان تحقق فيه انجازات ملموسة وسط صعوبات وتناقضات وصراعات صعبة ومعقّدة ، فأن ثورة كولان واجهت واقعا مغايرا لما واجهته أية ثورة ، لصعوبة مرحلتها ووعورة المسالك المتاحة والتحالف الشرير لقوى عديدة ومتحكمة ، إستطاعت معها الثورة من قلب الواقع والحسابات ، لتحيلها الى قوة دفع متماسكة في ظروف قاهرة وبالغة في الخطورة والدقة ، ولأنها واجهت واقع مأساوياً مراً كان يحتاج الى قراءة واعية وخبرات وتجارب وجدت نفسها في حكمة قيادتها الثورية ، فأنها إستطاعت أن تحول منظورات الواقع البائس الى شحنة ايجابية دفعت بمجرى الكفاح الى الامام.
واجهت ثورة كولان أجواء اليأس والاحباط ، التي أشاعتها نكسة اذار من عام 1975 وما عانته جماهير الكورد من جرائها وتداعياتها، وقد أعادت الثورة الامل الى النفوس وأنتشلتها من حالة الوجوم والقلق من خلال برنامجها السياسي وأنتصاراتها على مختلف جبهات المواجه ، الأمر الذي أدى التحاق الجماهير بركبها بعد مدة وجيزة ، كان بينهم من مختلف الاختصاصات ما يؤكد متانة نهجها وفلسفتها السياسية.
واجهت الثورة تحدياً آخر ، تطلب ايجاد مرتكزات لوحداتها الثورية المقاتلة في العمق الكوردستاني ، بعد سيطرة قوات سلطة النظام البائد على معظم مناطق الثورة بعد إنسحاب قوات الثورة منها أثر أتفاقية السادس من آذار السيئة الصيت ، وإستطاعت بفضل الذخيرة الثورية وعزيمة وتصميم قيادة الثورة من تحرير العديد من المواقع المهمة من قبضة النظام ، بعد أن زعقت وسائل أعلامه طويلا من أن الثورة الكوردية أنتهت والى الأبد ، وقد اصبحت المناطق المحررة نقطة ارتكاز وانطلاق لتجديد نيران الثورة.
إنطلقت الثورة من رؤية واعية لمسار الاحداث ، وأشارت في خطها السياسي الى جملة حقائق بصدد أوضاع كوردستان والعراق والمنطقة ، وقد اكدت الوقائع والاحداث عمق تلك الرؤية التي تحقق الكثير منها عبر حقب مختلفة.
أدركت ثورة كولان حجم المخاطر المحدقة ، وسعت الى توحيد الجهود في البيت الكوردي بما يعزز نضال شعب كوردستان ، وطرحت مبادرات جبهوية عديدة مدت المشوار النضالي للكورد بعوامل التضافر والتقدم ، وقد أدت تلك الخطوات الى تمتين جبهة المجابهة وخلق عنصر المفاجأة في التصدي ، ومن دواعي النجاح حينها إدراك القوى السياسية الكوردية ووعيها بالمصالح الأساسية للشعب الكوردستاني وضرورة ديمومة زاد الشعب النضالي .
حققت ثورة كولان تغييرات جوهرية في الواقع الموضوعي ، الذي بات يرسم طريق الأهداف بوضوح وثقة نحو مستقبل أكثر أشراقاً، كما حققت الكثير في مجال الرأي العام الدولي الذي بات يتفهم نضال شعب كوردستان بشكل أعمق ، إذ وضعته أمام حقائق جديدة كان لها أعمق اثر في التأثير على مجريات السياسة الدولية .
ثورة كولان كانت مشوارا ثوريا آخر في رحلة الرئيس بارزاني النضالية ، التي خاض غمارها في باكورة حياته وشبابه ، وكانت معركة أخرى من معاركه التي صنعت تاريخا مجيدا للكورد ، مثلما صنعت مستقبلا مضيئا تستكمل حلقاته بفعل حكمته وصبره وكفاحه.