فيما مضى كان الحياد بين المتخاصمين أمانا وابتعادا عن المشاكل وراحةَ بال ، كما كان الوقوف على التل للفرجة او التلصص من ثقب الباب على المعركة كما يصفون الحياد عادة ، موقفَ المتخاذلين في الفكر السياسي، والشيطانَ الاخرس في الوعظ الديني، وخيارَ الجبناء في السمعة العامة،. وقد انشغلت البحوث العلمية كعادتها بقضية الحياد سواء في الاعلام او الدين او الفكر او المجتمع، فمنهم من يرى ان الحيادي منطقي وموضوعي ، يناقضه آخر بان الحياد ضد الموضوعية بل يذهب الى ان الحيادي لافكر له لان الحياد يقتل الادلجة والانحياز الذي يتطلبه البحث عادة للتوصل الى نتائج ، وهنالك حياد الرفض وحياد الاستسلام وحياد تصيد الفرص فيما يرى آخر ان الحياد اصل العدالة ،ومن يرى ان الحياد ممر بين الجهل والمعرفة، وضربوا امثالا من الحياد الذي شُبّه بالعزلة ومنها المعتزلة : الفرقة الشهيرة التي تاسست بفعل الاعتزال والجدل والخلاف في التاريخ الاسلامي ، وهناك من حسم الامر تماما وقال إن الحياد أمرٌ مستحيل ؟ فمن الصعوبة بمكان ان يكون الشخص محايدا، اذا حاد المنطق انحاز الهوى ، بمعنى اذا ما اتزن العقل تسلل القلب، بل ان بعضهم وصف الحياد بالمرض.
فريق آخر يرى – وهذا مربط الفرس – ان الحياد خيار الشاطر – قبل لايروح بالرِجلين – في اي نزاع ثنائي، متحملا قائمة الاهانات المعتادة الدينية والدنيوية على حد سواء مثل الجبن وحب الدنيا وعدم تحمل المسؤولية والتهرب من اتخاذ القرار والخوف على المصالح. فالسؤال هنا، هل مازال فن او حيلة الحياد طريقَ نجاةٍ في حياتنا الراهنة ؟. الجواب لا، لم يعد كذلك ، لان الحياد الذي كان هروبا من نزاع العقائد والافكار تحول اليوم هو نفسه الى عقيدة . مهمة المحايد ان يدافع عنها ويحشد لها الاتباع من الدعائم والدواعم ، على المحايد ان يحارب جميع الاطراف المتصارعه كي يبرهن حياده، وأن يضحي بالغالي والنفيس دفاعا عنه . لم يعد المحايد آمنا او متراخيا، بل انتقل الى المواجهة مع الازدواجية والدجل وخطاب الاوجه المتعددة واستغلال الوطن ونهب المال العام والمتاجرة بالعقائد وتحالف اليمين واليسار في السياسة والمال والمؤامرات المحلية والدولية الغامضة، يحارب بسيفين ويفند رأيين متخالفين ويستعد لمقاتلة جيشين متعاديين . وهكذا انتهكت عذرية الحياد وتسلّح مثلما يتسلح منافسوه ، واشتعلت بالمخاطر منطقتهُ الآمنة المسالمة التي كانت تسمى ساحة المتخاذلين والجبناء الآمنين ومحبي الحياة ومطفئي الحرائق، .. واصبحت لها طبقات من المحاربين البواسل المتمسكين بـ (عقيدة الحياد) ، وطبقة اخرى من المجتمع البسيط المحايد المدلل المستفيد سابقا الذي تحول اليوم الى نازح ومهجر ومسبي بعد ان فقد كل شيء هاربا بدينه وروحه وشرفه من افاعي السياسة وحيتان الارهاب ، ربما هي نفسها رؤية نبي الله محمد (صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) “يأتي على الناسِ زمانٌ يفرّ المؤمنُ بدينهِ من الفِتَن” أخرجَه البخاري .