19 ديسمبر، 2024 9:54 م

السيسي والسقوط في درس الجغرافيا

السيسي والسقوط في درس الجغرافيا

على الرغم من الخلفية العسكرية للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ، والتي يفترض أنها تعكس الأهمية القصوى التي تتمتع بها الجغرافيا بالنسبة للسياسة ، إلاّ إني أزعم إن الرجل لم يقرأ كتاب الجغرافي المصري المشهور (جمال حمدان) عن شخصية مصر وعبقرية المكان ، والذي يؤكد من خلاله على شدة تعلق الشعب المصري بجغرافيته الوطنية وارتباطه الحميم بتضاريسها – خلافا”للعراقيين الذين لم يكترثوا أبدا”حيال كل ما وقع للجغرافيا العراقية من تجاوزات ولحق بها من انتهاكات ، سواء في زمن النظام السابق أو في عهد النظام اللاحق – وإلاّ لما أقدم على فعلته المتهورة التي أوقعته في ورطة سياسية قاتلة ، لا أظن انه توقع تداعياتها أو تحسب لعواقبها كما يعكس لنا المشهد السياسي المصري حاليا”. تلك هي المتعلقة بقرار ترسيم الحدود ما بين جمهورية مصر والمملكة العربية السعودية ، وما تمخض عنه من اتفاق الطرفين للشروع بنقل السيادة الوطنية على جزيرتي (صنافر وتيران) من الأولى إلى الثانية دون سابق إنذار .والحقيقة إن الواجب الوطني كان يفترض بالرئيس السيسي أن يعمد أولا”إلى دراسة المسألة دراسة شخصية متأنية تستقصي أبعادها السياسية والتاريخية والجغرافية والاجتماعية ، قبل أن يقرر ما ينبغي له القيام به من إجراءات والإقدام عليه من خطوات ، دون أن يكتفي بالاتكاء على آراء المستشارين المحيطين به والمقربين منه ، لاسيما وان للمسألة المطروحة خلفيات سياسية معقدة وملابسات تاريخية شائكة لم يحسم أمرها لحد الآن . وهو الأمر الذي كان سيفضي به حتما” إلى ترجيح خيار طرحها على الاستفتاء العام ، لجس نبض الشارع المصري – صاحب الشأن الحقيقي – حيال مثل هكذا أمور خطيرة ، ومن ثم الاطلاع على ردود فعل تياراته السياسية والاستئناس بمواقف مكوناته الشعبية للتصرف وفقا”لها وبناء عليها .الآن وقد حصل الذي حصل لم يعد أمام السيسي ، الذي سقط – بلا مبرر وبلا مسوّغ – في أول امتحان للجغرافيا ، من حظوظ للنجاة بفعلته سوى أن يحزم أمره ويتخذ قراره لمواجهة سلسلة حركات معارضة داخلية وخارجية بات زخمها يقوى وعنفوانها يتعاظم ، لاسيما وان تلك المعارضة لم تقتصر على خصومه التقليديين (الأخوان المسلمين) وحلفائهم فحسب ، بل وكذلك شملت أطياف أخرى من أحزاب سياسية وحركات اجتماعية وجدت نفسها مقصية عن المساهمة في السلطة ومهمشة عن المشاركة في الامتيازات .ولعل من سوء حظ السيسي أيضا”إن اتفاق ترسيم الحدود المبرم بين الحكومتين المصرية والسعودية ، لم تنجم عنه فقط مشاكل على صعيد الجغرافيا التي هي فيحالة مصر ذات حساسية عالية فحسب ، وإنما خلقت أمامه كذلك الكثير من العقبات على مستوى العلاقات بين الشعبين المصري والسعودي ، لجهة تباين ردود الأفعال واختلاف وجهات النظر وتعارض طبيعة المواقف . والأنكى من ذلك أن وسائل الإعلام – المصرية تحديدا”- دخلت على الخط المضطرب لتزيده سخونه وتؤججه اشتعالا”، بحيث إن كل يوم يمضي على واقعة الاتفاق مرجح له أن يؤزم العلاقات ويفاقم الخلافات ويعظم الكراهيات ، بدلا”من أن يخفف شحنة الاحتقان النفسي ويهدئ وطأة التوتر الاجتماعي .وبحسب بعض الخبراء والمطلعين على الأوضاع الداخلية للمجتمع المصري ، فان التدهور الحاد الركود المستمر اللذان يعاني منها الاقتصاد المصري ، هما من دفع بالسيسي للقيام بمثل هذه المغامرة المتسرعة ، ظنا”منه إن حزمة المشاريع الخدمية والعمرانية والسياحية التي تقدمت بها المملكة ، كفيلة بأن تشفع له فعلته أمام الشعب المصري الذي أبدى مزيجا”من مشاعر الغضب والدهشة إزاء تلك الفعلة ، من رئيسه الذي طالما راهن على مواقفه الوطنية وصلابته المبدئية .وهكذا يثبت الشعب المصري مرة أخرى – على خلاف نظيره العراقي – إن الجغرافيا الوطنية ليست ولن تكون محلا”للمساومة أو للمقايضة مهما كان الثمن ، ذلك لأنها ليست فقط عنوان سيادة الدول ومصدر هيبتها فحسب ، بل وكذلك هي ما يبني للشعوب شخصيتها المميزة ويمنح للأمم هويتها الفريدة [email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات