تغير الاحداث السياسية في العراق وسرعتها المتواصلة تجعل الامور اكثر ضبابية وغموضاً بدلاً عن محاولة الوضوح وأزاحة النقاب عما يجري على الساحة السياسية، والايام الاخيرة الماضية كانت اياماً ماراثونية للشعب والحكومة والبرلمان والاحزاب، ولكن دون أي محاولة تُذكر من قبل الاطراف السياسية لحلحلة الوضع ولملمة الامور وتهدأة الشارع المنتفض أو اشعاره باي أهتمام يذكر أو رعاية من قبل جميع سلطات الدولة، وكل جهة تلقي باللوم على السلطة الاخرى، وكأنهم بمنأى عما يجري من أحداث كارثية تمر بالبلد والشعب معاً.
الفشل السياسي المزمن، والازمات الكارثية المتواصلة التي يمر بها البلد انما هي صنيعة الاحزاب والكتل السياسية التي لم تنفك عن ممارستها الدائمة لسياسات مقرفة تمسكت بها طوال سنوات مضت ولا زالت متمسكة بها، من محاصصة وطائفية وحزبية ومصالح ضيقة تنم عن أنانيتها المفرطة في العمل السياسي واللهث وراء مكاسبها الشخصية المقيتة وتأجيل اعترافها او قبولها بحقوق الشعب ومظلوميته ومأساته التي يمر بها يومياً دون أي انفراج يذكر أو تقديم علاج شافي يقيه من كل أزمة أو كارثة يمر بها.
لقد جرب الشعب والمرجعيات الدينية والثقافية والفكرية والاكاديمية وكل من له شأن بالواقع العراقي، جرب هؤلاء كل أدوات العقلاء والحكماء، من منطق وحوار ولغة وحكمة، مع الحكومة والساسة والبرلمان، ولكن لا ينفع أي خطاب او سياسة أو منطق معهم، لأنهم في وادٍ ونحن في وادٍ آخر، وهم في السماء ونحن في الارض، فلا يبالون لكل ما يجري من أحداث ولا يكترثون بموقف الشعب والجماهير الغاضبة منهم، ومما يغيض ويؤلم أنهم يتجاهلون كل تلك الصيحات والتظاهرات والاعتصامات، وكأنهم ليسوا منا في شيء، فتباً لجرأتهم ووقاحتهم وتجاهلهم لأصوات الشعب الساخط والناقم عليهم والرافض لسياساتهم الهوجاء التي اوصلت البلاد والعباد الى هذا الحال المزري الذي لا مثيل له.
لم نر من أي سياسي او مسؤول او رئيس او وزير او قاضي في السلطات الثلاث أي تحرك جدي يسترعي انتباه الشعب والتاريخ، ويفعل فعلاً وطنياً محترماً يُسجل له ويكتبه التاريخ بأحرف من نور وبماء الذهب، فالبؤس واليأس والتعاسة تملأهم ولا شيء يحركهم ويدفعهم لعمل الخير سوى بطونهم الجائعة والشرهة للفساد ومصالحهم الذاتية التي تحركهم بصورة
جنونية تجاه ما يصنعون، فقد نسوا سنوات المر والظلم والحرمان التي عاشها الشعب العراقي سابقاً، وقد أزداد الشعب بؤساً وظلماً مما جاء به هولاء الساسة المرتزقة أصحاب الضمائر الميتة والجيوب الحية.
لا يحتمل الفرد ولا الشعب العراقي تلك المهازل الثقال الملقاة على عاتقه، ولا نحتمل مزيداً من الحروب والتهجير والنزوح والسبي والتطهير العرقي والطائفي وسياسات الابادة للمجتمع العراقي بكل فئاته ومكوناته، من قبل سياسيين لا شرف لهم ولا ضمير ولا أخلاق، سياسيون يدفعون الملايين والمليارات لكي يبقى العراق على هذا الحال مئات السنين، لأنهم ينتفعون من تلك الاحداث المزرية التي نمر بها، فهم تجار حروب ودماء وعنف وأرهاب، لا يمتون لنا بصلة، وقد استبدلوا دمائهم التي تجري في عروقهم بدماء أجنبية غير طاهرة لا تمت للعراق بشيء، كما أستبدلوا جنسياتهم وهوياتهم الوطنية بأخرى أجنبية، وقد أتضحت عمالتهم لدولهم بصورة سافرة لا تحتاج الى برهان يذكر.
حجم الفساد السياسي الكارثي في العراق ألقى بضلاله على حجم الفساد الاداري والاقتصادي والاجتماعي وعلى جميع المؤسسات داخل البلد، ومافيات وحيتان الفساد السياسي والاداري والحكومي والقضائي يفترسون ويقتلون كل من يقف بوجههم، لأنهم على حصانة كاملة من كل محاسبة او مراقبة او محاكمة من أي سلطة تذكر، ولأنهم هم من يحكم ولا حاكم فوق رؤوسهم، وهم من يحاسبون الناس ولا أحد يحاسبهم، فقد استفحلوا في ذلك وطغوا طغياناً لا مثيل له ولا شبيه، وقد نهبوا ثرواتنا وسرقوا أموالنا وقتلوا شبابنا وهجروا عوائلنا وقللوا من قيمة بلدنا بين البلدان، واهانوا وجودنا وكرامتنا بين الشعوب والمجتمعات، فهم آفة وسرطان يجب استأصله وأزالته من جسد العراق كي يعود مشافى معافى بين دول العالم ولشعبه الخير والامن والامان.
العجيب كل العجب أن العراق مغيب تماما عن الساحة العربية والعالمية من أي منجز يذكر له في أي مجال من المجالات الايجابية، سوى في قوائم الفساد والعنف والارهاب والكراهية، فنحن بفضل الساسة الجدد قد اصبحنا الاوائل في محطات السوء والفشل والانحطاط، وقد غادرنا محطات النجاح والتقدم والصناعة والبناء، بفضل ساسة الجور وحكام السوء الجدد الذين جاءوا للانتقام من هذا الشعب الكريم ونهب ثرواته ونقلها للخارج وتطبيق اجندات خارجية أُعدت في مطابخ عفنة لا تريد بنا خيراً.
ولكن الشعب لم ولن يقف مكتوف الايدي وهو يرى ما يحل به من جراء تلك السياسات الجائرة المدمرة التي اضاعت البلاد والعباد وأدخلتنا في دوامة لا مخرج منها ولا سبيل، ومعروف لدى الجميع ان الشعوب الحية لن ترضخ ولن تُستعبد من قبل حكامها مهما كانت قوتهم وسطوتهم
وقسوتهم، لأن الشعوب أقوى من الطغاة، ولن يسكت الشعب العراقي ولن يرتضي لنفسه أن يكون عبداً ذليلاً لسياسات وأفكار وأجندات شريرة أطاحت به وأذاقته مراً وصبراً وجوراً طوال سنين مضت، فالشعب بكل طبقاته وفئاته ومكوناته قد وعى اللعبة وأستيقظ من غفلته ولن يصفح لأعدائه وخونته الذين مد لهم يده في ساعات الشدة لبناء العراق وتحقيق نهضته وتخليصه من العصر المأسوي المظلم، ولكن الشعب تفاجأ بأن هؤلاء الساسة قد خانوا الامانة وقطعوا اليد الرحيمة التي مُدت لهم، وأدخلونا في متاهات كارثية لن يخرج العراق منها الا بشق الانفس، وما تلك التظاهرات والاعتصامات والنهضة المباركة للشعب العراقي الا لتصحيح المسار وتغيير منظومة الفساد الحكومي والبرلماني والقضائي ومحاولة لأستعادة البوصلة ورسم خارطة طريق جديدة لدولة تحترم الانسان وتجعل شعارها المواطن العراقي اولاً، والحفاظ على الوطن وأحترام هويته الوطنية، وأعلاء شأنها ومغادرة كل أفكار التطرف والتزمت والعنف والتهميش، ووأد الفكر الطائفي والمحاصصة السياسية المقيتة التي أودت بنا الى هذا الحال المزري.