5 نوفمبر، 2024 4:51 م
Search
Close this search box.

عن بعض العراقيين الذين مرٌوا بموسكو ( 91)

عن بعض العراقيين الذين مرٌوا بموسكو ( 91)

الحلقة هذه من سلسلة مقالاتي عن العراقيين الذين مروا بموسكو مكرٌسة للمرحوم عطشان ضيؤول الازيرجاوي ( ويكتبون اسمه في بعض المصادر الايزيرجاوي ), الشخصية العراقية المعروفة في تاريخ الحركة الشيوعية في العراق منذ بدايات اواسط القرن العشرين والى تاريخ وفاته ( خارج العراق ) بظروف وملابسات لا زالت لحد الان غامضة .
التقيت عطشان الازيرجاوي للمرة الاولى في جامعة موسكو صيف عام 1967 , عندما كنت هناك في زيارة لموسكو, قادما اليها من فرنسا , حيث كنت طالب دراسات عليا هناك. اخبرني بعض الاصدقاء العراقيين بانهم ذاهبون لزيارة شخص عراقي في غرفة المرحوم مصباح الخيرو ( طالب الدراسات العليا في كلية القانون بجامعة موسكو آنذاك ) اسمه عطشان , وهو شيوعي عراقي كبير كان (شبه محتجز!) بمستشفى للمجانين في موسكو نتيجة خلافات داخل الحزب الشيوعي العراقي معه , (وقد تم اطلاق سراحه من المستشفى بتدخل مباشر وعنيف , بل وحتى بتهديد من قبل بعض عناصر الحزب الشيوعي العراقي بعد الانشقاق الذي حدث في الحزب عندئذ) . ذهبت معهم طبعا , اذ ان الموضوع كان مثيرا جدا وغريبا جدا في آن . استقبلنا زميلنا مصباح الخيرو بكل لطف وترحاب , وشاهدت عطشان الازيرجاوي هناك لاول مرة وهو يتكلم بثقة مطلقة عن النهج الجديد للقيادة المركزية الجديدة للحزب الشيوعي العراقي وسياستها وتخطيطها وتوجهها لاستلام السلطة في العراق قريبا , ومن ثم بناء الدولة العراقية الاشتراكية الجديدة . كان حديثه عاما جدا وغير متناسق , ولم استطع في ذلك اللقاء طبعا ان أسأله عن مستشفى المجانين وكل التفاصيل الاخرى المرتبطة بهذه القضية . عرفت من الزملاء العراقيين بعدئذ, ان عطشان كان ضابطا
في الجيش العراقي , وتم فصله طبعا بعد ان اصبح شيوعيا , وعاش ظروف العمل السري القاسية للحزب, وخرج الى العلن بعد اعلان الجمهورية في 14 تموز 1958 واصبح احد المسؤولين البارزين عن الخط العسكري في الحزب الشيوعي , وانه كان يطرح دائما فكرة استلام السلطة من قبل الحزب الشيوعي واعلان العراق دولة اشتراكية , وانه كان مقتنعا تماما بامكانية تطبيق ذلك و بكل سهولة عن طريق انقلاب عسكري يقوم به الضباط الشيوعيون وانصارهم , ويقال ان رفاقه في الحزب اقنعوه بالسفر الى موسكو( للتخلص منه على الاغلب), وذلك بحجة الدراسة في المدرسة الحزبية هناك , وربما لمناقشة هذه الفكرة مع السوفيت فيما بعد , هذه الفكرة التي كانت على ما يبدو مسيطرة تماما على عقله وقلبه .
عند انتهاء ذلك اللقاء العام معه في جامعة موسكو , اخبرته باني طالب دراسات عليا في باريس , فطلب عنواني هناك , و فجأة , وبعد مرور فترة ليست قصيرة على ذلك اللقاء بجامعة موسكو , طرق عطشان باب سكني في باريس , وقد استقبلته طبعا بترحاب عراقي , واخبرني بانه سيبقى يومين هناك , وكان يسكن في فندق متواضع . وهكذا قضينا معا تلك اليومين باكملها سوية مع بعض الزملاء الآخرين . تسنى لي الحديث طويلا معه آنذاك , وقد سألته طبعا عن مستشفى المجانين في موسكو وقصتها , والتي سمعت بها من الزملاء العراقيين بموسكو كما ذكرت أعلاه . أخبرني عطشان , ان هذه القصة حقيقية فعلا , وانه كان نزيل مستشفى المجانين هناك . كان عطشان على قناعة تامة ,ان هذا الحدث جاء نتيجة الخلافات مع رفاقه في الحزب الشيوعي العراقي ونكاية به , وانه لولا الانشقاق الذي حدث في الحزب لما استطاع التخلص و التحرر من تلك التجربة الرهيبة في حياته . سألته كيف استطاع الصمود في تلك الظروف المعروفة في هذه المستشفيات بشكل عام , فقال لي انه كان مضطرأ ان يتصرف مثل هؤلاء المجانين الروس الذين كانوا
يحيطون به في تصرفاتهم وحركاتهم وطريقة عيشهم …الخ بعد ان درس وتأمل وضعه معهم , وذلك لأن فهم , ان المجانين لا يطيقون وجود اشخاص يتميزون عنهم , اذ انهم عندها يكونون عدوانيين وخطرين تجاههم حد القتل. لم ارغب طبعا ان اتحدث اكثر وبتفصيلات عن هذه الحادثة المريرة , التي مرٌت بحياته, وانكث الجراح القديمة كما يقال , ولكني فهمت منه , انه التقى هناك باجانب آخرين , وببعض الروس المثقفين ايضا , وحتى ادباء , لكنه لم يستطع ان يحدد آنذاك , هل هم مثل حالته ( اي ادخلوهم عنوة نتيجة مواقفهم السياسية ) أم انهم مرضى نفسيين فعلا , رغم انه كان يميل الى الاعتقاد انهم في وضع مشابه له , وانهم كانوا هناك ايضا نتيجة وشايات وخلافات وتناقضات فكرية مع رفاقهم المحيطين بهم .
تحدثنا ايضا عن جوانب اخرى كثيرة , ولم اجد في ثنايا تلك الاحاديث تحليلات علمية في السياسة والتاريخ لديه , ولا افكارا معمقة في الثقافة عموما, ولا زلت أذكر جوابه عن سؤال طرحته عليه وهو – هل توجد لديكم خططا محددة لفترة ما بعد السيطرة على السلطة في العراق , اذ ان ادارة الدولة مسؤولية كبيرة جدا ؟ فقال نعم ( نبيع النفط ونبني الوطن الحر السعيد ) , فقلت له وماذا سيكون موقفكم مثلا من القوى السياسية الاخرى المعارضة لكم؟
فضحك باستهزاء وقال – ( نقطع العضو التناسلي لكل معارض ونضعه في فمه ) .
عندما بدأت بكتابة هذه المقالة , بحثت في بعض المصادر العراقية عن معلومات عامة حوله, فوجدت ان رفاقه بالحزب الشيوعي العراقي يشيرون الى نفس الخصائص هذه , وهي المبالغة وعدم الدقة الموضوعية و التسرع باطلاق الاحكام وعدم امتلاكه للنظرة العلمية والفكرية العميقة…الخ . ووجدت في مصادر اخرى ايضا الاشارة الى انه ساهم – وبشكل فعٌال جدا – في عمليات تعذيب الموقوفين والمتهمين , عندما كان عضوا في لجان التحقيق في المحكمة
العسكرية العليا الخاصة بعد 14 تموز 1958 , وهي المشهورة بمحكمة الشعب او محكمة المهداوي (و تذكرت جملته التي قالها لي بشأن الموقف من المعارضة !!!) .
انقطعت اخباره تماما بالنسبة لي , ولكني سمعت من بعض الاصدقاء بعد سنوات طويلة جدا من ذلك اللقاء الباريسي , انهم وجدوه في شقته ( في خارج العراق) وقد فارق الحياة . ولم استطع ان اعرف اين كانت هذه الشقة (قال احدهم انها كانت في دمشق , و قال آخر انها في برلين الشرقية , و قال ثالث انها في بلغاريا ) , وسمعت ايضا انهم وجدوه مقتولا هناك , وقد سألت قبل فترة قصيرة الدكتور خليل عبد العزيز الذي كان يعرفه شخصيا , والتقى به في المدرسة الحزبية في طاشقند عاصمة اوزبكستان السوفيتية آنذاك , وكتب عنه ( انظر- سلسلة مقالات بعنوان – محطات وشخوص في حياة الدكتور خليل عبد العزيز / بقلم فرات المحسن ), فقال لي حرفيا – ( انا شخصيا اعتقد بانه قد انتحر ).

أحدث المقالات

أحدث المقالات