18 ديسمبر، 2024 8:53 م

“استرجاع الرواية الفلسطينية”..!

“استرجاع الرواية الفلسطينية”..!

كنتُ أشاهد تقريراً عن جالية فلسطينية في مدينة أميركية. وعرَض التقرير تعبير أبناء الجالية القوي عن هويتهم الفلسطينية في ضاحيتهم، من كتابة أسماء محلاتهم بالعربية إلى جانب الإنجليزية، إلى المحلات الكبيرة المختصة بعرض وبيع الثوب الفلسطيني التقليدي المطرز الذي ترتديه بنات ونساء الجالية في كل المناسبات، إلى إتقان الشباب والشابات الدبكة الفلسطينية، إلى الاحتفاظ باللهجة الأصلية الفلسطينية المميزة.
وتحدث التقرير عن جمعية نشطة تضم أهالي الضاحية، وتهدف، كما قالت ناشطة فيها، إلى تعليم القضية الفلسطينية للأبناء، وللأميركيين أيضاً. والهدف النهائي للأنشطة الاجتماعية للجالية، وللجمعية، كما قالت الناشطة، هو “استرجاع الرواية الفلسطينية”. وأشارت السيدة إلى أن الرواية السائدة في الغرب عن فلسطين، هي رواية الصهيونية: “أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض”. لذلك يستخدم الفلسطينيون كل عناصر الهوية ليقولوا للناس هناك: ها نحن، نحن الفلسطينيين الذين يُزعم أننا غير موجودين.
لا شك أن هذه الحيوية الهائلة في إصرار الفلسطينيين في الداخل والشتات على التماهي مع الهوية قد أقنعت العالم بأن هناك شعبا حيّا جداً اسمه الشعب الفلسطيني. لكنّ سرد الوجود الفلسطيني الحاضر بقوة في العالم، أصبح يتعارض بقوة مع السرد الجيو-سياسي عن القضية الفلسطينية. وبقدر ما يتحقق اعتراف عالمي بحق الفلسطينيين في أن يكون لهم وطن، فإن “الوطن” الذي يتصوره العالَم الآن هو البقع الصغيرة المرسومة في الخريطة على أنها “مناطق السلطة الفلسطينية” وغزة، بينما تم تحريف فصل الرواية الأساسي الذي يعرِّف فلسطين التاريخية، من البحر إلى النهر، بأنها وطن الفلسطينيين بشهادة التاريخ.
في توصيف “فلسطين” التي يعرضها كيان العدو –ولو أن هذا نفسه نظري فقط- يقول هنري سيغمان، الرئيس السابق لهيئة المؤتمر اليهودي الأميركي: “سوف يُترك الفلسطينيون مع 10 في المائة فقط من فلسطين ما قبل التقسيم. ولكن، مع وجود ترامب في البيت الأبيض، وصهره الداعم للاستيطان إلى جواره، فقد بدا حتى هذا الجزء المنكمش بالنسبة لنتنياهو مساحة سخية جداً لسكن الفلسطينيين… كان ما اقترحه نتنياهو هو أن يُحشر الفلسطينيون بشكل دائم في جيوب في 10 في المائة من فلسطين، تحت سيطرة جيش الدفاع الإسرائيلي. لكنهم سيكونون أحراراً في تسمية ذلك الترتيب دولة فلسطينية”.
على الأغلب، نتج هذا الاختزال المريع لمفهوم فلسطين عن التغييرات المتكررة في الرواية الفلسطينية، بذريعة أن هذا التغيير في الخطاب ضرورة تكتيكية. وقد اختفى إلى حد كبير في الرواية العربية والفلسطينية الرسميتين ذلك الفصل المهم المتعلق بأنه لم يكن هناك شيء اسمه “إسرائيل” قبل 1948، ولم تكن في فلسطين أغلبية يهودية في بدايات القرن العشرين، وإنما في الحقيقة أقلية صغيرة جداً. ولذلك، فإن فلسطين كلها هي وطن فلسطيني مغتصب. وهذا هو الفهم الفلسطيني والعربي الذي لا يقبل التغيير، لأنه هو الرواية الحقيقية، ببساطة.
إذا كان هناك “تكتيك” ذكي في شطب أهم فصل في الرواية الفلسطينية، فإنه ينبغي أن يكون قد جلب للفلسطينيين مكاسب يمكن الدفاع عنها. لكنه تكتيك خائب، أفضى فقط إلى إرباك الرواية وشحوبها، في مقابل لا شيء على الإطلاق سوى خسارة المصداقية وتلعثم الخطاب. وكان يجب منذ وقت طويل “استرجاع الرواية الفلسطينية” كاملة، كضرورة لحفظ الحق والوفاء للحقيقة والتاريخ. ولو أخذ منك أحد أقوى منك شيئاً وقاضيته، ووافق أن يعطيك نصفه -لكنه لم يفعل- فإن الطبيعي هو أن تعاود المطالبة بحقك كله، لأن قبولك بالنصف لم يفدك بشيء، وحتى تستعيد هامش المناورة.
يطالب العرب والفلسطينيون الرسميون الآن بدولة على أراضي 1967، مع السماح ببقاء الكتل الاستيطانية والطرق الالتفافية التي تقطع أوصال الضفة وتجعل الحياة فيها مستحيلة. ثُم يُلحَق بذلك حديث خافت غير متحمس عن “حق العودة”. ويعرف أبناء الشتات الفلسطيني المتشبثون بالرواية الحقيقية أن التفريط بحقهم في العودة مؤكّد حسب الاتجاهات الحالية. وربما يقبلون على الأقل، ولأغراض الواقعية، المطالبة بما يلي في جملة واحدة بلا نقصان: إقامة دولة فلسطينية حرة ومسلحة وبكل مقومات الدول، على كامل أراضي الضفة وغزة، مع سحب كل المستوطنات وتفكيك الطرق الالتفافية، وعودة كل فلسطيني راغب إلى فلسطين التاريخية، للعيش في دولة ديمقراطية وذات حقوق متساوية لكل سكانها. وهذا أضعف الإيمان.
نقلا عن الغد الاردنية