18 ديسمبر، 2024 9:01 م

الإطاحة بصيغة “التوافق الهش”، العبادي سبباً .!

الإطاحة بصيغة “التوافق الهش”، العبادي سبباً .!

كان واضحاً منذ بدء تشكل جبهة عزل نوري المالكي عن السلطة في العراق، إن إعادة تركيب العملية ذاتها من جديد بنفس آلاليات السابقة، وبنفس التفاهمات ما قبل 11 اب 2014 يوم تكليف حيدر العبادي لرئاسة الحكومة، سينتهي بالفشل والانهيار، أي إن إعادة انتاج النظام السياسي ذاته، وتغيير شخص نوري المالكي العقدة والاشكالية الكبرى في السياسية العراقية، لن يكتب له النجاح.
في مرة سابقة كتبنا عن هذا وقلنا، إن صيغة عراق ما بعد نوري المالكي، يجب ان تشابه صيغة عراق ما بعد صدام حسين، مع الالتفات الى ضرورة تجاوز اخطاء تلك المرحلتين في بناء نظام سياسي أخر، قائم على مبادئ، الاعتراف بالتنوع الاجتماعي كشكل مكون للأمة العراقية، ومن ثم منع استغلاله او توظيفه في عملية التنازع السياسي، وكي يكون الكلام ابعد من الانشائي، كان يجب ان تبدأ مرحلة حيدر العبادي، بالاجهاز على أرث نوري المالكي الثقيل والفاسد، عزل واسع لقادة جهازه الاداري والعسكري الواسع، البدء بترتيبات مصالحة وطنية تواجه اكثر الاسئلة صعوبةً وعدم الالتفات الى الخلف كثيراً، وكذلك اقصاء صقور تلك المرحلة عبر المحاكم أو عزلهم من الحياة السياسية نهائياً، وتقويض منظومة المالكي المالية ومراكزه قواه، ومن ثم البدء بتكوين جبهة برلمانية واسعة تتجاوز صيغة التقاسم المُتبعة، وكان على قوى جبهة “الفريق القوي المنسجم”، وأعني بها قوى كردية- قوى سنية – والمجلس الاعلى والتيار الصدري وبعض القوى المنسلخة من سيطرة حزب الدعوة، ان تضغط بقوة على دولة المالكي “العميقة” وتجهض مراكز سيطرتهِ فيها، ولكن هذا لم يحدث، والسبب التنافر الواضح بين اقطاب معادلة اقصاء الولاية الثالثة، واختلاف الرؤى الواضح بينها، ومحاولتها القفز على تلك المشاكل وترحيلها الى الإمام،وتركيب صيغة “توافق هش” لتشكيل سلطة تتجاوز الوقت الراهن، وتمنح بعض الامتيازات السياسية للقوى المساهمة في صناعتها، دون النظر الى خطورة ابقاء الوحش طليقاً.
 بدأ العبادي الذي يفتقد للكثير من الزخم داخل الائتلاف الذي جاء منه، ومن ثم داخل التحالف الشيعي الذي رشحه، متردداً في مواجهة قوى جاءت به، وفي مصارحتها بأن وجود صقورها في كابينته الوزارية،  يضر بمشروع صناعة بديل دولة  المالكي المنهارة،وهنا وقع العبادي بين المطرقة والسندان، فجبهة حزبه الداخلية تواجهه برفض مستمر في حال تقويض مراكز نفوذها، وتعده خيانةً منه لمشروعها الذي بدأته ابان حكومة الجعفري وواصلته عبر “التمكين” من الدولة في عهدي حكومة المالكي الفاشلة ، ويرفضون اي تنازل عنها، فالتنازل  كما يعبر بعض اطراف ائتلاف دولة القانون “إنبطاح” امام الشركاء الجدد المنافسين، الذين لم يكن نكران الذات واضحاً منهم  لصالح انجاز الدولة المؤسساتية الدستورية، بل كان مشروعهم قائماً على مبدأ الإزاحة والإحلال، بمعنى ازاحة مناصري حزب الدعوة، وإحلال بدلاء عنهم من مكونات ساهمت في صنع حيدر العبادي رئيساً لوزراء حكومة الفريق القوي المنسجم .!
تردد العبادي، او تهربه من مواجهة الاسئلة الصعبة طوال عام ونصف تقريباً كان له ثمن باهض، فقوى “دولة المالكي الفاسدة” من قوى مالية و  كتل برلمانية شيعية – سنية، مضافاً اليها منظومات اعلامية متكاملة داخلية وخارجية، نجحت في استعادة زمام المبادرة، عبر تشكيل جبهة ضغط لاستثمار التوقف او “حيرة” العبادي ازاء هذا الوضع، لتقود تحالفات مناوئة لمشروع التوافق السياسي الذي اريد له بناء دولة  لا مركزية، تقود تفاهم بعيد المدى لعراق فيدرالي، لكن هذا لم ينجح، فضعف العبادي او تراخيه او لنقل تأجيله للمواجهة الطبيعية، منح الكثير من الوقت لمناوئيه، وابرق رسالة لحلفائه، بأن المالكي استعاد نفسه في حيدر العبادي، وهنا كان موقف مقتدى الصدر وانصاره، واضحاً ازاء تلك الاستعادة، وايقضت لديهم حس “المؤامرة” التي كانوا لازالوا يتحسسونها من مطابخ غريمهم الوحيد نوري المالكي، دفعهم هذا  لمطالبة العبادي ان يقلب الطاولة على الجميع، خصومه وحلفائه، وإن يشكل حكومة لا حزبية تنهي ما تبقى من عمر حكومته، بأنتظار منازلة 2018 الحاسمة، لكن ذلك لم يحدث بسبب رفض حلفاء العبادي – المجلس الاعلى – الاكراد لهذا الخيار، فما كان منهم سوى التحالف مع الخصوم لمواجهة انفسهم وحلفائهم ولخصومهم ايضاً، فكان ثمن هذا التحالف الاطاحة بركن من حمائم الاعتدال كما وصفت، واجهز على الصيغة الأولى لمرحلة ما بعد الولاية الثالثة، وخيار الصدريين هذا اقسى خيار  يمكن ان يلجأ له فيصل سياسي، يتحالف مع خصمه للإجهاز  على نفسه وخصمه في آن واحد.
يمكن وصف لحظة تحالف الصدريين وانصار المالكي للإطاحة بسليم الجبوري ونائبيه، بأنها تشبه تلك التي يمسك بها الغريق بمنقذه، ليغرقه معه، فما عادت هذه العملية تحتمل سوى اغراق الجميع، والسبب دائماً عجز العبادي عن مواجهة كل تلك الاسئلة مجتمعةً .
وهنا نحن امام استحقاق مواجهة اخرى بعد ان ينجح فريق الاجهاز بالقضاء على صيغة الفريق القوي المنسجم، سيعود ليحترب مرةً أخرى نظراً لاختلاف بوصلتهِ السياسية، ففيما تحاول قوى الإستعادة فرض منطقها، فأن فريق الإطاحة بكل شيء سيصر على إنجاز مشروعه، فما المخرج أزاء موقف كهذا، اعتقد الشارع العراقي الساحة الوحيد الذي سيلجأ اليه الطرفان لحسم هذا التناقض .!