22 نوفمبر، 2024 9:48 م
Search
Close this search box.

خطوط حمراء

يُطل علينا بين حين وآخر من يعكر مسامعنا بحديث عن شخوص أو كتل سياسية أو مناصب بوصفها حسب زعم هؤلاء خطوطاً حمراء.أما وقد أثبتت تجارب الأزمة العراقية المستعصية على الحل والميالة بحكم ما تحمله من تناقضات الى الاستقرار على حالة الفوضى، أن شخوصها وقواها الداخلية ليسوا أكثر من واجهات تستطيع أن تسقط بعضها بعضاً، فلا مناص من التأمل قليلاً في مسألة الخطوط الحمراء تلك بمفهوم الحدود التي لا يمكن المساس بها، أو المساحات التي ينطوي بلوغها على الوقوع في المحظور.دعونا نتفق هنا من حيث المبدأ على صفة أساسية تجمع الخطوط الحمراء الحقيقة التي تقف خلف كواليس الأحداث، إذ تتجسد تلك الصفة باستقرار الحالة وندرة تحوُّل طبيعتها لصالح العراق.ووفقاً لذلك الوصف فإن الفساد بأشكاله كلها في عراق ما بعد 2003 خط أحمر حقيقي، إذ أن خلاصة ما آلَ إليه حالنا بعد سنوات من الحديث عن جهود الجميع للقضاء على الفساد هو أن الفاسدين يحاربون أقرانهم في الفساد بهدف إنتاج نظام فاسد جديد ينبثق من المنظومة ذاتها التي يتبادل شخوصها الإتهامات.وبعيداً عما يحصل اليوم من تطورات متسارعة في هذا الشأن، فإن الفساد في العراق من أعلى الهرم وصولاً الى الأسس بات يمثل منظومة متداخلة ومعقدة من المصالح التي تجمع القوى السياسية جميعها بلا استثناء، بل تعداه الى تحوله الى ما يشبه النظام القوي المتماسك الذي يستتر بالنظام السياسي المتهالك. إن ما نراه اليوم أو نسمع به ليس إلا رأس جبل جليدي وأن الخروج من المنظومة تلك أو عليها يكاد يكون من سابع المستحيلات كما يُقال لأنها توفر الحماية لشخوصها فهم بعيداً عن تلك المنظومة بلا ثمن، الأمر الذي يقودنا الى التشكيك في القدرة على الإصلاح في هذه المرحلة المتقدمة من الأزمة.
الفوضى. منذ أن تأسست الدولة العراقية وحتى اللحظة، كانت الفوضى صفةً مستديمة وما تزال. لم يحدث أن شهد العراق الحديث عقداً واحداً متواصلاً من الاستقرار إذ كان هناك دائماً من أو ما ينغص حياة الأجيال المتعاقبة. وللفوضى مسمياتها التي تناسب طبيعة كل عهد فتأخذ شكل إنقلاب عسكري أو حرب داخلية أو أهلية أو على هيئة إرهاب دولة أو جماعة إرهابية أو غير ذلك.خلاصة القول أن الفوضى أياً كان شكلها هي بحد ذاتها وسيلة لهدف يُراد له أن يتحقق إذ هي تساهم بديمومة مصالح الفاسدين في كل عهد ونظام ضمن منظومة المصالح الخارجية التي تتصارع في العراق. وبكلمة أخرى فإن الفوضى خط أحمر إذ لم يتمكن أحد في العراق الحديث من كبح جماحها.
المصالح الخارجية والتدخلات الأجنبية هي الأخرى خط أحمر طالما أنها تضع العراق في حسابات الأمن القومي للقوى المعنية موضع الجوهرة من العِقد. ولا حاجة للإطالة حول هذه المسألة فهي من المُسَلَّمات.
تدمير العراق خط أحمر من الصعب جداً منعه أو كبت جِماحِه لأنه ببساطة يساهم في توسيع مساحةٍ رحبة لديمومة صراع المصالح الخارجية، كما أنه ينسجم مع منظومة الفساد الداخلي التي تمثل واجهةً لتلك المصالح. وبطبيعة الحال تحقيق الاستقرار في العراق خط أحمر لا يُسمحُ للعراقيين ببلوغه لأنه سيغير من طبيعة معادلة الشرق الأوسط بحلتها الحالية.
ختاماً فإن التنبؤ بالمستقبل في علم السياسة أمر صعب فكيف بمستقبل بلد كان من المفترض أن يصبح جنة الله في الأرض فبات قطعةً من الجحيم؟مع ذلك على من يحاول استقراء المستقبل، عليه بمراقبة تلك الخطوط الحمراء الحقيقية.

أحدث المقالات