تحل اليوم في السابع من نيسان ذكرى تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي على يد مسيحي سوري هو ميتشيل عفلق . ورغم السقوط المدوي لتجربة حزب البعث في العراق وسوريا ، الا ان الكثير ممن صفقوا لحزب البعث وطبلوا له غيروا جلودهم بسرعة البرق عند سقوط بغداد في ٩ نيسان ٢٠٠٣ ، اي بعد ٤٨ ساعة فقط من انتهاء حكم الحزب الواحد ، وبسرعة مشهودة رأيناهم يتقدمون الجموع لتهنئة الأمريكان على غزو العراق ، لا بل ظلوا يدافعون عن هذا الاحتلال بانه ( تحرير ) وليس احتلال، في الوقت الذي كان فيه الأمريكان أنفسهم يصفون وجودهم في العراق بانه احتلال . وظل الناس في حيرة من امرهم حيال هولاء . والواقع ان هذه الفئة من الانتهازيين والمتلونين كالحرباء إنما يغيرون جلودهم بسرعة عجيبة . وقد وجدت هذه الفئة منذ زمن الخلافة الاسلامية الراشدة ، فكان احدهم يبايع لأكثر من شخص واحد ، ويتنقل في بيعته من واحد لآخر ، ويتنصل من بيعة سابقة له لأحدهم ، ليبايع شخصا أخر. ومن المعروف ان مايدفعهم لذلك هو مصالحهم الشخصية الضيقة وإنانيتهم . والانتهازية في مفهومها الاصطلاحي التى نعنيها هي اغتنام الفرصة واستثمارها من أجل أهداف شيطانية أو منطلقات محدودة ضيقة الأفق لا تخرج عن إطار المنفعة الذاتية القصيرة الأمد، ولا يخفى أن الانتهازية والنفاق وجهان لعملة واحدة، فالانتهازي يضمر من وراء تظاهره بالصلاح أو التملق مصلحته الذاتية غير المشروعة والإبقاء عليها بإتباعه أساليب تتلون بألوانها وتتفصل على مقاساتها. كذالك المنافق يخفي في نفاقه ألواناً من التآمر والأفكار المنحرفة في منهجية مدروسة ويتغلغل بين صفوف المبدئيين والمخلصين مظهراً ولائه وايمانه متحيناً للفرص من اجل القضاء على المشروع وقيمه ومبادئه وكيانه القائم. فالانتهازية رأي لا أصالة له، ولا يرتكز على أرضية صلبة، وإنما يتحول ويتبدل ويدور مع الريح أينما دارت ولا يقر له قرار. وكما وصفهم علي بن ابي طالب ع بقوله: يدرورون اينما دارت مآربهم. لذلك كله نجد أن الانتهازية سببت في مجتمعنا انعكاسات خطيرة وخاصة في الظروف الحرجة التي مرّ ويمر بها، وقد كانت هذه الفئة سبب بلاء هذه الأمة الاسلامية ثم العربية، وسببا للانقسامات الخطيرة التي شهدتها المجتمعات الاسلامية والعربية وسببا في ظهور مذاهب مختلفة، مازالت تعاني من انقساماتها. وكانت هذه الفئة سببا في مقتل الحسين بن علي في عاشوراء بعد ان كتبوا له يبايعونه وتخلوا عنه بعد ايام قليلة فقط ، وكانوا سببا في واقعة كربلاءعام 61 ه. ومن سمات الانتهازي الكذب على نفسه وعلى المجتمع وعلى الله، إذ نجد الكذب قد استشرى في وجود الانتهازي فاحاطه وتغلغل في كل خلاياه لا يجد منه مهرباً فاصبح جزءاً من ذاته لا يعرف بغيره. وبما أن الكذب رأس كل الخطايا فإن سائر الصفات السلبية الأخرى التي نراها في سلوك الانتهازيين المنافقين إنما هي نتاج طبيعي لصفة الكذب التي تستولي على كيان وروح الانتهازيين المنافقين. ومن تلك الصفات الغدر الذي يعتبره الانتهازيون كيسا وذكاء وشطارة، مزيفين بذلك الحق لينسبهم أهل الجهل إلى حسن الحيلة والتدبير الجيد، وهي قراءة للمفاهيم والقيم بصورة مقلوبة، وهذا هو مركز الخطر الحقيقي الذي تزرعه الروح الانتهازية في المجتمع ومنها تنشأ جميع السلبيات والمفاهيم المشوهة التي يصبح معها المعروف منكراً والمنكر معروفاً. ومن صفاتهم الكثيرة التخاذل، والاحتيال، والذلة، والجبن، والخوف على الحياة ولذائذها، وسلاطة اللسان. هؤلاء هم الانتهازيون وتلك بعضا من نماذجهم وصفاتهم وسلوكياتهم التي تشكل خطرا داهما على المجتمع وفي جميع الأصعدة .وارجو ان لايذهب ذهن القارىء العزيز الى ان الجميع خونة، فالتعميم آفة الحديث. ففي المجتمع اناس مبدئيون لايغيرون قناعاتهم الصادقة بكل كنوز الارض ومهما علت الخطوب والمصائب. وقد وصف القرآن الكريم هذه الفئة الصادقة أحسن وصف بقوله: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا. وفي العراق رأينا الرفاق في حزب البعث يتحولون الى آبناء العم سام في لمح البصر. وأن مجتمعنا اليوم وكما كان بالأمس مبتلى بهذه النوعية من الناس الذين يمثلون دائما الخطوط المائلة التي تسعى إلى الوصول إلى اهدافها قاطعة الخط المستقيم الذي عليه المجتمع من إرث ثقافي وديني، مظهرين غير ما في قلوبهم المريضة وليس فيها إلا الغدر والخداع والمصلحة الرخيصة التي تُملي عليهم مسايرة الوضع القائم مهما تقاطع مع مايدعونه من معتقد، وكثيرا ما يتحينون الفرص للوقيعة بالمخلصين للحصول على الامتيازات بأسهل الطرق لانهم ليس لديهم أي استعداد للتضحية. ومن ثقافة الانتهازيين والنفعيين كيل الاتهامات جزافاً، وتشويه سمعة المخلصين من أصحاب المبادئ الشرفاء، من اجل خلق أجواء معتمة وغائمة وتعكير المياه ليتسنى لهم التصيد فيها بسهولة وليضمنوا استمرار رزقهم القائم على هذه التجارة. والعجيب ان اول تهمة يتهمون بها هولاء لخصومهم هو الانتماء للبعث ، وقد ذهب الكثيرون ضحية هذا الاتهام الباطل فاذاقوا الناس الامرين، وكان كل واحد منهم سببا في كارثة ماحقة ، فالقادة العسكريين منهم كانوا سببا في سقوط محافظة الموصل بيد داعش صيف عام ٢٠١٤ وهكذا فعل الآخرون كل في مجال عمله ، ومازال الكثير منهم أعضاء فاعلين في القيادة العراقية، وتزخر صفحات الانترنيت باسماء كثيرة من هذه الفئة في كل مفاصل الدولة كالبرلمان والمحكمة العليا ووزارة الخارجية ووزارة الدفاع. والقائمة تطول ويمكن لكل شخص ان يضيف من يعرفهم من امثال هولاء . لذا ليس غريبا ان نجد هولاء ينقلبون على الأمريكان ايضا بانتفاء مصلحتهم ، وقبل سنتين استمعت الى محاضرة القاها الوكيل السابق لوزارة الخارجية محمد الحاج حمود في معهد الخدمة الخارجية التابع للوزارة ، قائلا : ان الأمريكان سبب خراب العراق ، وانا لم أعد اخشى شيئا فأنا بايع مخلص ، وان الأمريكان هم من شجعوا الناس على سرقة مؤسسات الدولة بقولهم : كمان علي بابا Come in Ali baba” “. ونسي أو تناسى انه قبل سنة كان يقول بالانكليزيّة للوفود : نحن والامريكان هبايب Habaieb . وقد ظلّ الأتراك يرددون بمرارة عام ١٩١٤ وحتى الان عبارة (عرب خاين ) بعد اعلان الشريف الحسين بن علي الثورة العربية الكبرى في الحجاز. ولهذا وصف السياسي البريطاني الشهير ونستون تشرشل العرب بأمة الخيانة ، عندما قال اذا سقط العرب سقطت الخيانة من العالم . واعتقد جازما انه لو عاد حزب البعث للسلطة في العراق لكان هولاء وامثالهم السباقين للانظمام له، وربما ادعوا بأنهم كانوا بعثيين قبل ميتشيل عفلق . لذا يحق تهنئة كل هولاء الانتهازيين والمتلونين على خراب بلدانهم ومجتمعاتهم.وهنا لا يسعنا الا ان نردد ما قاله الشاعر: إنما الامم الأخلاق مابقيت … فان هم ذهبت اخلاقهم ذهبوا.