جاءَ بمليء إرادتِه ليختار ، وَعدوهُ بمستقبلٍ واعد ، وبصوتِه الماسي سيعانقُ الحورَ العين وبه تُفتحُ أبوابُ الجنان ، ومع مرور الزمن وتسارعِ الأحداثِ أُميطَ اللثامِ عن وجه الحقيقةِ فإذا بها عاريةٌ عن الصحة ؛ فالأغلالُ ذات الأغلال والقيودُ لازالت تفرضُ وجودَها بقوةٍ تكبلُ صوت الحقيقة ، مشهد مؤلمٌ أن تكون هكذا نهاية تأريخنا .
سعى العراقيون بعنفوان الشباب صغيرُهم وكبيرُهم يسيرون بحذرٍ بين الموتى ليُعبِّروا عن فرحتهم بزوال كابوسٍ لطالما جثمَ على صدورهم عقودًا من الزمن ، ليقولوا كلمتَهم عبر صناديق الاقتراع ، لأنها أولُ تجربةٍ أثبتت وجودَ الذات بعد أن طُمِرت حيةً في حضيرةِ الجياع ، ولأنها أول ممارسةٍ لاحتْ لنا في الأفق كأحلام اليقظة في زمن الظلام ، ولأنها أولُ وجودٍ اشرأبت له الأعناقُ لتلتحقَ بالأحياء تحت مظلة ما يسمى ( الحرية وحقوق الإنسان ) .
هكذا هو المشهد وهكذا هي الصورة القاسية ، فصوتُك أغلى من الذهب ، اشدد حيازيمك لتدلو به وتنتخب ، أدخلِ السرورَ على أيتامِ آل محمد ، و تزدادُ الأصواتُ في صناديقِ الاقتراع وتزداد معها مآسينا ألماً وافتراعًا نحو الألمِ ولو بعد حين ، لتفرزَ تكتلاتٍ لكتلٍ غلبت ضخامة الأسماء فيها على مصداقيةِ الموقف و مسؤولية الكلمة الصادقة ، تُدار من أشخاصٍ لا يزيدون على أصابعِ اليد الواحدة ، يتحكمونَ بمقدراتِ شعبٍ بأكمله ، بينما تغفو عبراتُ الأيتام تحتضُنها آهاتُ الثكالى على أرصفةِ وادي الذئاب ونحن في غقلةٍ ساهون ، وكلٌ منا لسانُ حاله يقول : ما أردناهؤلاء إنما منحنا ثقتنا بأصواتنا لغيرهم فكيف تربعَ هؤلاء على سدَّة الحكم و التحكم ؟؟؟ .
هذه سُنَّةُ ( الحرية ) التي زحفت إلينا في ليالي الشتاء القارصة من وراء الجدران ، بائسةٌ هي إذ لم يُحتفَ بها كما ينبغي لها أن تكون ، حتى أمست ( حريتُهم ) غريبةً في بلادٍ تعطَّشَ لطعم الحرية وقضى سنيِّ عمره يحلمُ بطيفها أن يلامس آمال شعبٍ لم يقضِ منها وطرا .
قالوا لنا : هل فكرتَ يومًا أن تختار ؟ هل أُتيحَ لك أن تخُط بـ( نعم ) أو ( لا ) ؟ ها قد جاءتك فرصةُ الحياة ، اختر بها مَن تشاء ومن تريد ، لكن لا تتفاجأ إذا ما علمتَ أن الأمرَ محسومٌ لرؤساء الكتل ، هؤلاء هم مَن يعرفون كيف يطبخون طبختَهم الباهتةَ على نارٍ هادئة ، مُزجتْ في قدورها آلامٌ و آمال .
هؤلاء حكموا علينا بالموت السريري ، فأيُّ معنى لاختيارنا و نحن لانرى مَن أردناه يمارسُ دورَه في تمثيلنا حقَّ تمثيل وإنما هو حِكرٌ رهنوه بإشارةٍ من رؤساء الكتل ، وكأننا كنا هناك ولم نكن ، كنا ضمأى على أعتاب الحريةِ المزعومة علنا نرتشفُ منها ما يبرِّدُ غليلَنا ، ولم نكن نعلمُ أننا نحومُ في حلقةٍ مفرَغة ، إذ لا تُرفع الأيادي و تُخفضُ إلا بإذنٍ من هؤلاء ، حريةٌ نَصبتْ نعشَها قبل موتها .
قانون انتخابي فصلوهُ على مقاساتِ نزواتِهم و رغباتِهم ،حتى يستوعب طموحَهم المستشري و يتوافق مع سمَرهم في ليالي ألف ليلةٍ و ليلة ، فالمقاعدُ محجوزةٌ ولامكان فيها لمن يحاولُ أن يخالف هذا القانون الانتخابي ، نعم لك الحق أن تنتخبَ ولكن مهما فعلتَ فحصةُ الأسدِ من كعكةِ ميلاد الحريةِ الجديدة معلومةٌ سلفاً لمن سيؤولُ مصيرُها وأين مستقرَها ومثواها الأخير ، فقراراتُ الشعوب لاتصنعُها عقولُهم إنما تأتيهم جاهزةً بعد أن حاكتها أصابعٌ خفية في دهاليزٍ مظلمة حتى أتقنوا صنعَها .
من هنا يبدأ الإصلاح الحقيقي ، إصلاحٌ يوغلٌ بعمق في مستنقع الفساد ليرقع مايستطيع ترقيعه من قوانينَ فاسدةٍ متهرئةٍ ألبسوُها ثوبَ التطور و مواكبةِ الحداثة ، وهي في حقيقتها ما هي إلا نمطٌ من أنماط الديكتاتوريةِ وتكرِّسُ لبقائها و ديمومتِها ، فما قيمةُ إصلاحٍ تتغيرُ فيه الوجوه لتلبسَ نفس الأقنعة التي سرقتْ قوتَ الشعب و مصَّت دماءَ الفقراء ، فهناك مَن يحومُ حول دائرةِ الإصلاح حتى يعود لنقطةِ البداية ، وهناك من يعرفُ من أين تؤكلُ الكتف حتى إذا أُصلحت القوانين التي أفرزت الفساد بدأت مسيرة الإصلاح بخطىً ثابتةٍ ، وإلا عدنا إلى المربع الأول .