من المباديء التي يحتكمُ إليها العقلاءُ في تقييم قراراتِهم سلبًا وإيجابًا هي الوسطيةُ والاعتدال ، على اعتبار أنّها تقعُ في منتصف الطريق بين الإفراط و التفريط ، ومن هنا كثُر تداول مقولةِ ( خيرُ الأمور أوسطُها ) كحلٍّ لكثيرٍ من الإشكالات .
بيد أنّ تطبيقَ هذا المبدأ على إطلاقه في التعاملِ مع مُجمل المواقفِ التي تواجُهنا و خصوصًا حين يحتدمُ الصراع قد يحيدُ بنا عن دائرة الوسطيةِ و الاعتدال إلى حيث التطرُفِ و الابتذال ، وهو ما نلمسه بوضوح في بعض مشاريع الإصلاح حتى غدتْ سُنّةً جرى عليها البعض؛ إذ إن كلَّ محاولةٍ للإصلاح هي شروعٌ بعملٍ ما نحو تحقيق أهدافٍ ضمن خطةٍ أُعدتْ سلفًا ، هكذا ينبغي أن تسيرَ الأمور ، وهي بين النجاحِ و الفشلِ في إثبات وجودها من عدمه تبعًا لقدرتها على تحقيق أهدافها.
وهو أمر طبيعي بحسب الظروف والإمكانيات المتاحة من وعي الجماهير وتفاعلها مع المشروع الإصلاحي مرورًا بالأجندة الخارجية وانتهاءً بملابسات الطرح والتعديل في بنى ونظريات المشروع حتى نقطة التنفيذ ، لكن الغريب حينما يُقدِّم مَن نصّب نفسه قائدًا للإصلاح قدمًا و يؤخر أخرى في وسط المعترك ، فإن أصابت فبها ونعمت وإلا ( فأنا بريءٌ مما تعملون ) .
هذا منطقٌ حاكم في عقلية البعض ، فالخطوة الأولى باتجاه إحراز نتائج الانتصار السياسي بعد عملية التغيير وهي لفائدة المشروع ، إذ لولا جهوده – أي المُصلح – لما توصلتم لما أنتم فيه من النِّعمِ الجسام ، وهذا أمرٌ مشروع ( ولاتبخسوا الناس أشياءهم ) ، لكن مشكلتَنا في القدمِ الأخرى حينما لا تلتحق في خطوتها بأختها ، بل إنها لاتبقى في مكانها و تتنصل عن المسؤولية حينما تكون نتائج التغيير ليست كما أُريدَ لها أن تكون أو غير منسجمة مع الذهنية الازدواجية ، ومن هنا تبدأ الكارثة ؛ فما كان خيرًا فهو لنا وحسب و لايشاركنا فيه الآخرون ولنا حصة الأسد في إيجاده ، وما كان سوءً لانتحمل مسؤوليته ، وهذه العقلية التي تحاول الجمع بين الموقفين ( الاقدام و الإحجام ) في صفقةٍ واحدة تكون بعيدةً كلَّ البعد عن التسديد الإلهي ، وقد أشار القرآن الكريم إليها في آيتين متتاليتين ((وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا – وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا )) [النساء : 72- 73 ] فهي مترددة بين الفوز العظيم من جهة و اعتزال الجهاد من جهةٍ أخرى .
فالجميع يبحث عن الإصلاح ويطالب به إلا أنَ مايرغبُ فيه المضطَهدون من قادة الإصلاحِ أن يُكملوا ما بدأوا به إلى النهاية معهم ولايتركوهم في منتصف الطريق ، فيكتفوا بجني الغنائم حين تُونع الثمارُ وتُخضرُ الجناب والاقتصار على توقيع صكِّ البراءة ممن ظلم واضطهدَ هذا الشعب المسكين والنتيجة ( أين ما أصابت فتحٌ ) ، فالقائد الحقيقي والمصلح الرسالي هو من يقدِّمُ الحلولَ ويطبقُها ويتحملُ النتائجَ السلبيةِ وإلا فالإصلاح خارج نطاق التغطية