كنت في حديث مع زميل من الفلبين , وهو من المطلعين والمتفكرين , ويمتاز بالحكمة والدراية المعرفية الواسعة , وتناولنا موضوعات متنوعة , وسألني عمّا سيحصل في البلاد العربية,
فقلت: منذ أن كنت في المدرسة المتوسطة وأنا أقرأ عما سيحصل في المنطقة العربية , ولم تفعل الحكومات شيئا للوقاية مما تراه سيحدث , فعلى سبيل المثال كنا نقرأ في جدارية المدرسة مقالات بعنوان ” المنطقة إلى أين” , وهي إفتتاحية الجريدة الرسمية آنذاك , وكانت تتحدث بدقة وتفصيل عن الحال التي تعيشها المنطقة اليوم , وقد صدرت بكتاب صغير بذات العنوان.
فقال زميلي : إنها لعنة كساندرا!!
قلت: ماذا تقول؟
قال: كاساندرا في الأساطير الإغريقية هي إبنة بريام ملك طروادة , وقد وقع أبولو بغرامها فوعدها بنعمة التبصر والتنبؤ إن إستجابت لرغباته فوافقت على العرض , لكنها ما أن حصلت على الموهبة الإبصارية , حتى سخرت من أبولو وطلبه ورفضت تحقيقه , فإنتقم منها بأن جعل كل تنبؤاتها لا تُصدَّق.
قلت: أن المشكلة العربية تتلخص بالدراية وحسب , أي أن العمل هو أن يكون داريا وإنتهى الأمر , بمعنى أن التطورات والأحداث معروفة ومتوقعة , وتمضي بإستسلامية مقيتة وإستكانة مقرفة.
نظرني زميلي متحيرا , وأضاف : هذه نسخة أخرى بطبعة جديدة للعنة كاساندرا !!
قلت: يبدو أن لدينا لعنات لا تُحصى , فالتأريخ فيه لعنات متوالدة ومتوارثة تبدأ بلعنة أكد وما قبلها وما بعدها.
لم يعرف زميلي ما أقصد وطلب مني أن أشرح له لعنة أكد , فأخذته إلى صفحات الإنترنيت لتصفحها , وبعد أن قرأها , قال: لعنة كاساندرا العربية , تبرهن تنبؤاتها بنفسها , إنها لعنة أدري ولا أفعل!!
قلت : صدقت!!
فالواقع العربي ليس عقيما أو خاليا من العقول المنيرة الواعية المستقرئة المستنبطة , القادرة على الوصول إلى تحليل العناصر والمفردات وقراءة خارطة الأحداث والتفاعلات , لكنها تقرأ بذكاء وتتوصل إلى نتائج صحيحة , وبعد ذلك لا تفعل شيئا , أو تساهم في إقرار ما أدركته وتوصلت إليه من نتائج ومعطيات , لتتفاخر بأنها قالت وذكرت وحذّرت!!
فكنا نقرأ عن اللبننة , وعن تقسيم العراق , دول عربية أخرى كسوريا ومصر والسودان وغيرها , وعن الطائفية , والتخطيط لحروب أهلية تقسم المقسم وتمزق الممزق , وعن مشاريع إستنزاف الطاقات العربية , ومنع الإعمار والتقدم , وإجهاض البرامج التنموية , وتعويق التفاعل الوحدوي
العربي , والنيل من العروبة والدين , وعن تحويل الصراع إلى عربي- عربي , وعربي إسلامي , وإسلامي إسلامي , وذلك في القرن العشرين , وما أن حلّ القرن الحادي والعشرين , حتى وجدتنا نعيش ما كنا نتحدث عنه وبشراسة فائقة ومتوحشة.
وبعد سقوط العراق عام ألفين وثلاثة إجتمع القادة العرب , وتحدث أحدهم على أن مصير الجميع سيكون كمصير العراق ونظام حكمه , فضحكوا وهزئوا منه , والقائل بذلك لاقى نهاية قاسية , ومعظم الحاضرين باؤوا بذات المصير , أي أنهم لم يفعلوا شيئا وقائيا , وإنما إستسلموا للمصير المرسوم أو المحتوم الذي يعرفونه.
ولا يمكن تفسير هذا السلوك الإنخناعي , إلا بأن الأمور ليست بأيدي العرب , وأنهم محكومون بإرادات قِوى أخرى , ولا حول ولا قوة عندهم إلا بتلك القوى القابضة على مصيرهم , والتي تقرر ما يفعلون.
فهذه أمة تدري وجميع قدراتها مصفّدة في عنابر الشحن إلى مواطن الآخرين!!