ريكور بين مرلوبونتي وليفيناس
استهلال:
” لا شك في أن ظاهرة الأفقHorizon ذو أهمية رئيسية بالنسبة لبحث هوسرل الفنومينولوجي… إن الأفق ليس تخما صارما وإنما هو شيء يتحرك مع المرء ويدعوه إلى التقدم إلي الأمام “1[1].
لقد دشن الفيلسوف وعالم الرياضيات الألماني أودموند هوسرل 1859-1938 الحركة الفلسفية التي اصطلح على تسميتها فنومينولوجويا والتي ارتكز منهجها بالأساس على رد المعطيات إلى الوعي وعلى كذلك استخلاص الفلسفة من الميتافيزيقا التي أضاعت طريق الذهاب إلى الأشياء في حد ذاتها.
لقد بقيت هذه الفلسفة تمجد التمثل وتعرف الوعي بواسطة القصدية وتسعى لكي تشكل المنهج الوصفي الأكثر صرامة ودقة بالنسبة للظواهر. لقد أحدثت محاضرة هوسرل من على مدرج السوربون سنة 1929 والتي جاءت بعنوان تأملات ديكارتية رجة في صف الفلسفة الفرنسية وأثرت بصورة عميقة على أبحاث ليفيناس وسارتر وغاستون برجر. بيد أن طرافة الفنومينولوجيا في فرنسا أنها اصطبغت بالمنحى النفسي عند موريس مرلوبونتي وجسدت تأثير هوسرل من خلال هيدجر على ليفيناس وسارتر وبول ريكور.
احقاق للحق ينبغي القول بأن الفنومينولوجيا مثلت في بداية القرن العشرين وعيا جديدا بالأزمة التي يعاني منها العالم ودشنت محاولة جدية للتفكير في الأزمة والبحث عن مسارات مستحدثة تنشر الأمل والانعتاق.
لقد سعت الفنومينولوجيا الى تخطي العديد من الأزواج الميتافيزيقية ضمن تأليف جدلي بينهما على غرار ثنائيات الطبيعة والقانون ، وكذلك الجسد والنفس، ثم التجريبية والعقلانية، وأيضا الذات والعالم، ووجهت الأنظار الى الخبرة المعيشة والحياة اليومية وقضية المعنى وأعلنت الحرب على الوضعانية والعلموية.
لكن ما المقصود بالفنومينولوجيا ؟ كيف تم الانتقال بها مع مرلوبونتي من عالم المفارقة الى عالم المحايثة؟ وهل ساعدت على اكتشاف قارة الذاتية مع ليفيناس؟ وبأي معنى طعم ريكور المبحث بالتأويل والسردية؟ وماذا يحدث على صعيد الفكر لو وضعنا هرمينوطيقا ريكور بين فنومينولوجيا مرلوبونتي وايتيقا لفيناس؟
ماهو في ميزان العقل ليس استعادة الفلسفة الفنومينولوجية بصورة مذهبية والاكتفاء بعرض فكري تحليلي لأبنيتها النظرية وإنما استخدام المنهج الفنومينولوجي في وصف التراث ودارسة الواقع الذي يعيشه المرء.
1- موريس مرلوبونتي:
” ليس الإدراك الطبيعي علما، ولا يطرح الأشياء التي يحمل عليها ولا يقوم بالابتعاد عنها لكي يلاحظها وإنما يحي معها، انه الرأي أو الإيمان الأصلي الذي يربطنا مع العالم مثلما نرتبط بالوطن الذي يخصنا”2[2]
لقد خالف مرلوبونتي (1908-1961) كل من برجسن ولافال وألف أطروحة خول فنومينولوجيا الإدراك سنة 1945 مقبولة باللغة الفلسفية المتداولة وتتضمن فلسفة شاملة تعتمد على الإدراك الحسي للإطلال على الوجود وتأخذ بعين الاعتبار تجربة الإنسان في العالم وتستلهم في حدوساتها العناصر الفلسفية التي وفرها علم النفس الشكل. لقد أكد مرلوبونتي على خاصية الذاتي بالنسبة إلى الجسد الخاص وذلك بأن نفى عنه أن يمثل عضو المعرفة بالعالم والتعامل معه بوصفه قصدية دالة. لقد أوضح ،على خلاف الاختزال الديكارتي للجسم إلى الامتداد، بأن الجسد هو كلام متكلم يحمل المعنى في العالم الذي يحضر فيه. على اثر تحليله للعالم المدرك بين مرلوبونتي عن عدم كفاية الأطروحات العقلانية التي تقتصر على رؤية شغل العقل في التجربة الإدراكية وكشف عن خطأ نظرية المعرفة عند كانط لما قامت بالخلط بين الزمان والمكان.
على هذا النحو لا يكون الإحساس مجرد قبول المعطيات من الخارج وإنما هو انفتاح على العالم وتلخيص للمدركات الحسية أكثر منه تأليف وموجز عن المحسوسات أكثر منه إحاطة واختصار أكثر منه استيعاب. لقد بلور مرلوبونتي عن طريق تحليل للإدراك الحسي من زاوية الجسد الخاص نظرية جديدة في الذات، وحرص على أن تُختَزَل الذاتية وتُرَد فنومينولوجيا الى الزمانية في حد ذاتها وأن تكون الفنومينولوجيا بحثا متأنيا ومنهجا وصفيا يظل وفيا لما يسبق مبدأ الكوجيتو الانعكاسي أو المجال الذي يأتي قبل البعد التفكيري ويقصد الجانب من الذات الذي يهب نفسه لذاته وذلك من حيث البدء باعتباره ملتزم بالعالم .
على هذا الأساس يستثمر مرلوبونتي حقول متنوعة من علوم الانسان لمواجهة الاتجاهات الموضوعاتية والوضعية ويعتمد دون دراية منه على الفلسفة العينية للروح عند برجسن التي تتأسس على مفهوم التعبير وذلك في كتبه المتقدمة وخاصة مؤلفات “بنية السلوك”1942 وفنومينولوجيا الادراك 1945و”الانسانوية والإرهاب”1947 و”المعنى واللاّمعنى”1948 و”تقريظ الفلسفة”1953 و”مغامرات الديالكتيك”1955.
في هذا السياق يصرح بأن ” الوعي ليس له ماهو باطني ، انه لا يوجد خارج العالم وخارج الكلمات”3[3]، وبالتالي لا يكون الإدراك perception حصيلة تفاعل سببي بين ذرات من الإحساس وإنما هو بعد فاعل من حيث انفتاحه الأولي على العالم المعيش ويترجم قول هوسرل بأن “كل وعي هو وعي بشيء معين”.
مهما كانت أطروحة مرلوبونتي طريفة وجديدة إلا أنها بقيت تتحرك على أرضية الفلسفة المثالية وتحترم المقولات التي بلورتها على غرار ثنائيات الذات- الموضوع والطبيعة-العالم والوعي – الوعي بالذات.
بهذا المعنى يوجه عناية كبيرة بمشكل الفن ويضع مسالة التعبير الفني في مركز اهتمامه الفنومينولوجي ويضعها في منزلة البناء التكويني للإدراك والعلاقات التي يمكن أن يشيدها كل من الإنسان والعالم معا.
ربما يكون مرلوبونتي قد اقتدر على تخطي ثنائية الذات والموضوع في كتاباته المتأخرة وبالخصوص في مؤلفات “علامات” 1960 و”العين والفكر” 1960 و”المرئي واللاّمرئي” 1964 و”نثر العالم” 1969.
لقد تم اختراق الفنومينولوجيا عن طريق صعود حدس ميتافيزيقي بصورة خاصة يتمثل في معطى اللحم الذي يوجد في منطقة وسطى بين الواقعة والماهية وبين المادة والفكر ويشكل اللاّمرئية التي تشكل المرئي ويمثل العمق الغامض الذي يسمح بظهور الأشياء واللاّمعرفة الأولية التي تدفع الرغبة إلى كسب المعرفة. لقد حاول مرلوبونتي دفع الحدود الداخلية للفنومينولوجيا من حيث هي دراسة موجهة للظواهر وتقييد للفلسفة لكي ترتقي إلى مستوى فلسفة الفكر ومن أجل أن تتحول إلى ميتافيزيقا من نوع جديد ومعاصر. لقد تعامل مع الفنومينولوجيا بوصفها إنكار للعلم وأكد على أهمية العودة إلى الأشياء من الناحية المنهجية وحاول إعادة التفكير في العلم في حد ذاتها وذلك بإضفاء المعنى والقيمة على تجربة الإنسان في العالم.
لقد مر مرلوبونتي بتجربة التدريس وكان أستاذا ناجحا في تعليم الفلسفة بالرغم من فشل الرفقة التي جمعته بجان بول سارتر وتميز بإعطائه الأولوية للإدراك وتثمينه للحضور المتجسد في العالم وتدشينه التجربة اللغوية لفنومينولوجيا الكلام واهتمامه بالفنون والانتباه إلى دور العلاقات البيذاتية في تشبيك حركة التاريخ وتأكيده على أهمية التصالب الحي في الانتقال من اللاّمرئي إلى المرئي وفي إنتاج المعنى من اللاّمعنى.
على سبيل الختم لقد كانت” خشية الفلسفة من اللاّمعنى هي خشية الخطر الكارثي الذي لا انعطاء معه لمعنى أصلي ولا بقاء بعده لمطلب غائي ولذلك كان صبرها على إنشاء المعنى بقدر حرصها على استبعاد اللاّمعنى”4[4]. لقد استخدم مرلوبونتي فنومينولوجيا الكلام من أجل أن يبين أن التعبيرية expressivité تمتحن قدرات الذات المتسجدة في العالم على بلورة أنشطة رمزية وأفعال إدراكية تتجاوز المستوى العضوي للجسم الموضوعي وتبلغ درجة الأنشطة العقلية التي تقوم برفعها إلى مستوى الحياة الثقافية.
هكذا يتحول الكلام إلى نواة الثقافة وذلك لما يتمتع به من دور في امتحان العلاقة بين الفكر والمعنى وبين الذات والعالم ويتجلى ذلك بوضوح في الاستعمالات الأدبية للغة وإمكانيات الجسد الخاص في التعبير فنيا. فما يمكن أن يضيف ليفناس الى فنومينولوجيا الادراك الحسي عند مرلوبونتي؟
2- عمونيال ليفيناس:
” يرحب الوعي الأخلاقي بالغير… تبدأ الأخلاق عندما تحس الحرية بأنها اعتباطية وعنيفة بدل أن تسوغ ذاتها بواسطة ذاتها”5[5].
لقد مثل ليفيناس (1906-1995) وجها ساطعا في سماء الفلسفة الفرنسية في القرن العشرين بالرغم من أصوله الروسة اليهودية وتأثره بالفيلسوف اليهودي الألماني أودمنود هوسرل الذي ناقش حوله في سترازبورغ أطروحة دكتورا حول نظرية الحدس في الفنومينولوجيا ، وبعد ذلك لم يستبعد تعلقه بنظريات هيدجر وسارتر.
على الرغم من المساعدة التي قدمها له جان فال للتدريس في السوربون فإن الكتاب الذي ساهم في شهرته هو الكلية واللانهائي الذي ألفه عام 1961 ولم تعترف به الجامعة إلا ثلاثة سنوات قبل تقاعده عام1973.
لا يمكن إدراج ليفيناس ضمن سلسلة فلاسفة الأخلاق الفرنسيين بالرغم من أن المبحث الأول في فلسفته هو الإيتيقا وذلك بحكم المصادر الفنومينولوجية لتفكيره وبسبب استبداله الأنطولوجيا والميتافيزيقا بالإيتيقا.
لقد جعل من وجه الغير الظاهرة الأولى وبالأحرى التجربة التأسيسية للفلسفة الفنومينولوجية ولكن ليفيناس لم يتصور الوجه على أنه وجه واحد بعينه وإنما يذكر بأن الأمر يتعلق بوجه الآخر في العموم والإطلاق.
كما أن تجربة الوجه لوجه ليست موعد للتحابب والتوادد بل هي أمر أخلاقي ومعطى إنساني. بهذا المعنى إن كل نزاع مع الغير لا يمكن إدراكه إلا على قاعدة حضور الغير بالنسبة إلى الأنا ذاته وما يتضمنه هذا الحضور من مسؤولية يتحملها الأنا تجاه الغير ومسؤولية الغير إزاء الأنا الذي يلتقي به وجها لوجه.
لقد آمن ليفيناس بأن ماهية التجربة الإنسانية هي ملقاة على قارعة الطريق وأن كل أمر واقع يتفرع عنها، وانطلق من موضوع الكلام لكي يثمن فعل القولLe dire على المضمون المقيلle dit ويبرر ذلك بأن فعل القول هو الكلام الحي بوصفه قول للغير، بينما مضمون المقيل ليس سوى المحتوى الكوني للرسالة.
الكلية عند ليفيناس هي النسق والعقل الكلياني الذي ينسب بالخطأ الى هيجل، أما اللانهائي فهو الكسر والاختراق والاستراحة والأرق وحضور بصورة عاجلة لأمر متعال في ذواتنا على هيئة نظام وترتيب ويمثل تعال الأخر والله في ذات الوقت بالنظر إلى أن الآخر يظل دائما وأبدا آخر. بناء على ذلك ان اللانهائي ليس البتة نفيا للنهائي وإنما هو ذاتية الذات من وراء القصدية . كما أن الذاتية ليست تقية باطنية بما أن الوعي ينثني على ذاته في كل امتحان من أجل الوعي وبما أن أخلاق الوعي الباطني تحتاج إلى نقد بالنظر إلى سقوطه في فخاخ النفاق. على هذا النحو تعيش الذاتية توترا في اتجاه الآخر ولكنها ما تلبث أن تعمل على استقبال هذا الآخر وتلقي عليه التحية وتقوم بالترحيب به وذلك لكونها تتحدد بواسطة الخارجية.
أما اللانهائي فهو شكل الآخر من حيث هو آخر حيث الظهور يتلاعب بتناهي العقلانية التي حددها كانط. فالآخر لا يستطيع أن يدخل في أطر المطابق أي لا يمكن إدراجه ضمن المساحة الخاصة بمقولات الذهن.
والآية على ذلك أن خارجية هي مضافة إلى المَقوَلة وأن حرية الذات وفكرها هي من تبعات ظهور الغير وتنتج عن انفصاله الجذري وأخذه بعين الاعتبار عدم إمكانية إرجاعه واختزاله إلى عدد من المقولات.
على هذا الأساس تعارض فلسفة ليفيناس سعي سبينوزا إلى جعل فلسفته تستهدف كل من الحكمة والغبطة بواسطة التراتبية وتجميع التنوع في وحدة نسقية شاملة وتصغي إلى درس أنبياء اليهودية وفلسفة الوجود عند كيركغارد وتقترح تحليلات معمقة للحساسية بغية إعادة تشكيل للذات من جديد أمام حضور الغير.
إن نكتة الإشكال عند ليفيناس تتمثل في تحول الذات إلى رهينة عند الآخر بما أن الأنا يتضمن هذا الآخر. علاوة على أن الذاتية المقتلعة هي بالأساس ذاتية عطوبة وهشة بما أنها منفعلة ومعذبة في ذات الوقت.
ليست العطوبية إمكانية المعاناة والعذاب والتألم بل هي بالخصوص معاناة الأبرياء التي هي بالنسبة إلى الوعي الإنذار الأكثر حدة بأن ينتقل إلى منظور الآخر ويتحمل مسؤولية كل الشر الحاضر في العالم. بناء على ذلك لا تتمثل المسؤولية في الإحساس بالذنب بل التصريح على الشرف والإقرار بالكرامة الإنسانية.
من هذا المنظور تتحول العطوبية الى امكانية للاستمتاع ويصبح العناق ردا فنومينولوجيا معكوسا على الاهانة والجرح والطعنة ويتم تشييد فنومينولوجيا المحبة بالاعتماد على تجاوز لاإجتماعية الشهوة وتلاشي العناق بسبب وجود آخر كجسد شهواني وحنون إلى انتظار الثراء في الزمن التام والحلم بالأبدية السعيدة.
يترتب على ذلك أن ” الحكمة التي يطمح إليها التفكير الجديد والحياة التي تعبر عليها لا تتوقف على معانقة الكون. لقد صرح المرء، بعد أن شجب الجميع الزهد الفكري للمخبر، أن مغزى الدلالات أو العقلانية قد بنيت أيضا بوصفها المعرفة أي الهدف الشامل – المتضمن – لخارجية معينة”6[6]
لقد ترك ليفيناس فلسفة مضادة للميتافيزيقا تصف نفسها بأنها إعادة تأويل إيتيقي للميتافيزيقا وتحصل على معناها بالمراهنة على العلاقات الايتيقية بين الذات والغير من خلال تشييد علاقات بينذاتية وبيشخصية إنسانية . لقد أصبحت الفنومينولوجيا إيتيقا تصرح بأولوية الروحي وتقطع مع كل محاولة تتجاوز للايتيقا.
فماهو الدرس الفنومينولوجي الذي استفاده ريكور من ايتيقا ليفيناس؟
3- بول ريكور:
” لا يمكن للفنومينولوجيا أن تنجز برنامجها في التكوين دون أن تتكون هي نفسها عبر تأويل معين لحياة الأنا”7[7]
يغطي الأثر الذي تركه بول ريكور (1913-2005) معظم المشكلات الفلسفية لعصرنا باستثناء المشكلات التي تطرح ضمن دائرة العلوم الطبيعية والدقيقة. لقد ساهم في تشييد فلسفة الوجود لما شارك كارل ياسبرس في تأليف دراسة متأنية بعنوان فلسفة ولما دخل في نقاش مع غابريال مرسيل واستلهم الأفكار الأخلاقية من جان نابير وليفيناس. بيد أن ريكور ظل على اتصال قوي بفنومينولوجيا أودموند هوسرل وقام بترجمة أفكاره التوجيهية من أجل الفينومينولوجيا عام 1950 والتي عرفت فيما بعد بالأفكار 1، كما بقي منشدا إلى فلسفة مارتن هيدجر وبالخصوص في الوجود والزمان وأيضا “كانط ومشكل الميتافيزيقا”.
ما يثير الاستغراب أن أثرا كبيرا لم يطرح أبدا مشكل الله بالرغم من كون مؤلفه يعتبر فيلسوفا مسيحيا ويعرف باهتمامه بالهوامش والتخوم وتناوله لمسائل تفسير الكتاب المقدس واعتنائه بالرمز والأساطير.
لقد بين ريكور أن فنومينولوجيا الدين غير كافية اذا ما لم يتم تطعيمها بهرمينوطيقا النص المقدس وبهذا المعنى خلت فلسفة الدين من كل الاعتبارات الميتافيزيقية وحرصت على تطبيق المنهج الهرمينوطيقي وأقرت بلاّشخصية الإيمان وطابعه المستتر وجانبه الملغز الذي كان كيركجارد قد بين بعده اللاّفلسفي.
لقد كانت فنومينولوجيا الفعل أول اهتمامات ريكور ولقد جعل من الفعل محرك كل كتبه بالتعارض مع التأمل المحض أو مع النظرية الخالصة. بما أن الإنسان يتحدد بواسطة فعله فإن الفلسفة مطالبة بتوضيح هذا الفعل وبدراسة الكلام على أنه استعارة حية وحركة داخل السرد وضمن إطار زمانية وجود متغيرة.
من المعلوم أن موضوع الأطروحة التي ناقشها بول ريكور في نهاية الأربعينات من القرن الفارط كان يدور حول “فنومينولوجيا الإرادة” ويتمفصل إلى قسمين هما “الإرادي واللاّإرادي” و”التناهي والإثم”.
من البديهي أن يبلور ريكور الإيتيقا بوصفها البعد الأساسي للتفكير وصلة الإرادة بالأنا والجسد واللاوعي والحياة على نمط الرد الأولاني الذي شيده هوسرل من خلال الأشكال المختلفة للتجربة المعيشة على غرار التردد والاختيار ، والعاطفة والعادة. بهذا الفعل أجاب ريكور على العدمية التي وقع فيها سارتر.
في سياق ذلك تناول ريكور مسألة الشر ودرس الكيف التي تجعل من طبيعة الإنسان تتضمن إمكانية إتيان الشر وفسر ذلك بهشاشة الإنسان من خلال قراءة تراجيدية لهذه الهشاشة عبر الأساطير القديمة والدينية.
إذا تعذر على الفيلسوف فهم الشر بواسطة المفاهيم وتحليل الأفكار فإنه يمكن اعتماد مقاربة تفك الرموز. لقد مثل ذلك المرة الأولى التي ينقل فيها ريكور الفنومينولوجيا إلى الدرب الهرمينوطيقي ومحاورة فرويد في محاولة قرأ فيها الحياة اللاواعية والرموز الثقافية في كتاب “في التأويل ، محاول حول فرويد” 1965.
والحق أن الفنومينولوجيا الوصفية ليست البتة تجربة وصفية محضة وإنما تتضمن اختيارا مترويا للثوابت وانعطافا نحو الهرمينوطيقا التي تنكب بدراسة العلامات وفك الرموز وتفسير الأساطير وقراءة القصص.
لقد تفطن هوسرل إلى وهم القول بشفافية الوعي بالنسبة إلى ذاته ، في هذا الإطار سعى ريكور إلى التظنن حول أطروحة اللاوعي وصلته بالوعي التي قدمها جاك لاكان في التفسير البنيوي إزاء النص الفرويدي.
لقد بنى ريكور تصوره للذات التي تتخلى عن تمركزها على ذاتها وتنخرط ضمن جدلية بين الأركيولوجيا التي تحيل إلى الرمزية وقوة الدوافع والتيليولوجيا التي تسمح بالوعي بالتطور في اتجاه النموذج المثالي. لقد أفضى الانتباه الهرمينوطيقي إلى أهمية النص وضرورة منحه العناية اللائقة والتزام ريكور بالتفكير في اللغة واستكشاف ديناميكيتها الداخلية وقدراتها الذاتية على الابتكار الدلالي في الاستعارة الحية 1975.
لقد قام ريكور بالتعريج على النظريات الألسنية والفلسفة التحليلية وفلسفة اللغة لكي يظهر للعيان حياة الكلام في استعماله الاستعاري وبالتحديد في التجربة الشعرية وما يتولد عنها من إعادة تشكيل وإنشائية. لقد أوضح ريكور التمفصل بين السردية والزمانية في كتابه الزمن والسرد بأجزائه الثلاثة 1983-1985 بالانطلاق من دراسة تتقاطع فيها اعترافات أوغسطين وفن الشعر عند أرسطو وتقوم الحبكة بوظيفة ضرورية عند التفكير في الزمان وتسمح بالقول بأن التاريخ في عمقه هو تجربة سردية تستند إلى التخييل.
لا يمكن ايجاد حل للمعضلات التي يطرحها الزمان بالنسبة إلى الفيلسوف ويقترح ريكور إعادة تشكيل الزمان بواسطة السرد والانطلاق من حقيقة أن الزمانية هي تأشير على تناهي الوعي ولاإكتمال الفلسفة. لقد قاد التفكير حول مشكلة العدالة ريكور إلى إحداث تقاطع بين الإيتيقا والسياسة وذلك بالتأكيد على مهام السياسي العادل لتنجب العنف واللاّتسامح والحرب واتخاذ إجراءات تحترم الحق وإرادة العيش المشترك.
لقد طرح ريكور في كتاب “عين الذات غيرا” 1990 مفهوم الهوية بين وصف عين الذات والتزام الإنية وأسند إلى الذات الفاعلة من حيث وجود من أجل مشروع مهمة الإقرار بالذات عبر علاقة تكاملية بالغير.
لقد ضمت نظرية ريكور في الأخلاق قسما أولا أطلق عليه تسمية إيتيقا صغرى تجيب على مطلب السعادة من حيث هي المقصد المشروع من الوجود الأحسن وقسما ثانيا يشمل الأخلاق المعيارية التي تتحرك ضمن مبدأ الواجب ويمكن التعبير عنه بمبدأ الاحترام . بناء على ذلك لا تدور الإيتيقا الصغرى في فلك معيار العادل إلا من خلال خوضها تجربة تراجيدية للفعل. هكذا تتجاوز الفنومينولوجيا الهرمينوطيقية لدى بول ريكور علم الأنا الفنومينولوجي عند هوسرل نحو فلسفة للفعل تكون في ذات الوقت ألسنية وأخلاقية وأدمجت في داخلها المعطيات الفلسفية الكبرى دون أن تكون متسامحة مع أي تجاوز ميتافيزيقي مأمول.
لقد عني ريكور بفنومينولجيا الذاكرة ما يلي: “من المهم في نظري أن نقوم بوصف الطاهرات الذاكرية من وجهة نظر القدرات التي تشكل الظاهرات تحقيقها الفعلي السعيد.”8[8] وأشار الى أن القدرات هي الامكانيات الأساسية التي يملكها الانسان القادر على الكلام والتصرف والسرد وتحمل مسؤولية أعماله والتذكر والصفح والاعتراف وتمكنه حينما يضعها من الانتقال من ذاكرة جريحة الى ذكرة جيدة وسليمة.
خاتمة
” لقد عثر الوعي الفنومينولوجي في داخله نفسه على طريق نحو الخارج ، نحو المتعالي، انه في ذات القوت منغلق على ذاته وبالرغم من ذالك منفتح على المتعالي لكن بفضل ماهيته المحايثة الخاصة”9[9]
لقد تبين بالكاشف أن الفنومينولوجيا في بنيتها الأساسية تقوم بدراسة الظواهر من خلال تحليل مباشر للتجربة المعيشة عن طريق ذات عارفة وأنها تبحث عن معنى هذه التجربة في ما تتحدث به هذه الذات وما تكتبه عنها عندما تلتقي بهذه التجربة وتعيشها من الداخل بعد تخليها عن كل الأحكام المسبقة . بهذا المعنى يرتكز المنهج الفنومينولوجي على رصد ومتابعة الحقيقة دون الإيمان بوجودها بصورة مسبقة في الموضوع الذي تقوم بدراسته وتدعو الباحث إلى الالتصاق بالتجربة التي يعيشها ويلغي كل إمكانية تأويل.
على هذا النحو يمكن تصنيف الفنومينولوجيا ضمن النماذج البنائية والنظريات التكوينية التي تنتج رؤية للعالم تشرع للكثرة والتنوع والتعدد في مستوى الواقع والحقيقة والمعنى دون إغفال الكلية الجامعة.
لقد اضطرمت نيران الفنومينولوجيا فومضت أنوارها أركان المعرفة وأضاءت أروقة الوجود وتمخضت في العديد من التيارات والاتجاهات في الفلسفة المعاصرة وشملت مناهجها نظرية المعرفة ونظرية القيم.
إذا كانت فنومينولوجيا مرلوبونتي قد رهنت حضور الفلسفة في التاريخ بانتشال معنى العالم ووصفت علاقات التصالب بين الإنية والغيرية وبين الحرية والحتمية وبين النزعة المضادة للإنسانية والإنسانوية التراجيدية وأدخلت السؤال إلى تربة الدلالة واتخذت أسلوب الكلام مطية للإطلالة على المعقول في الجسد بأرضه ولحمه وانتهت إلى الأنطولوجيا الاستقرائية10[10] ، وإذا كانت فنومينولوجيا ليفيناس قد وقعت مفهوم الغير في الفلسفة المعاصرة وحلت معضلة الأنا والآخر عبر الوساطة الايتيقية للوجه وتناولت قضايا الألم والانتشاء والحياة والموت وجعلت من الحياة اليومية فرصة لانتظار القادم ضمن تسامي النور والعقل ودعت إلى الاضطلاع بالمسؤولية والفعل في الوجود ضمن اشتباك الحدث بالزمن وانتصار خصوبة غريزة الحب على إرادة التدمير وتفشي أنطولوجيا العدمية11[11]، فإن فنومينولوجيا بول ريكور قد حرصت على نحتت ورشات تفكير عديدة ورسمت لنفسها رهانات غير معهودة وخاضت غمار الرمز والأسطورة والمخيال والاستعارة والأدب والخطابة وحاولت المزج جدليا بين ابستيمولوجيا العلوم الانسانية وأنطولوجيبا الفهم وبين سيمونيطيقا الفعل والهرمينوطيقا الدينية وانتهت الى بناء فلسفة الفعل واعادة تشكيل مفهوم الهوية السردية ونحت البديل الإيتيقي وانارة الإقرار الأنطولوجي للكائن البشري. فهل غطت فنومينولوجيا الذاكرة على ابستيمولوجيا التاريخ؟ وألا يجدر بالمرء رصد منعرج فنومينولوجي حاد للعقلانية السردية؟ وبأي معنى ظل العقل الهرمينوطيقي يتحرك ضمن الدوائر المرسومة فنومينوجيا؟
الإحالات والهوامش:
[1] غادامير (هانز جورج)، الحقيقة والمنهج،الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية، ترجمة حسن ناطم وعلى حاكم صالح، دار أويا ، ليبيا، طبعة أولى، 2007. ص344.
[2] Merleau-Ponty (Maurice), Phénoménologie de la perception, p371.
[3] Merleau-Ponty (Maurice), Phénoménologie de la perception, édition Gallimard, 1945, réédition « Tel » , Paris, p213.
[4] العيادي عبد العزيز، مسألة الحرية ووظيفة المعنى في فلسفة موريس مرلوبونتي، دار صامد، تونس، طبعة أولى، 2004ص328
[5] Levinas (Emmanuel), Totalité et infini, essai sur l’extériorité, le livre de poche, coll. « Biblio essais », Paris, 1990.p83.
[6] Levinas Emmanuel, Altérité et transcendance, édition Fata Morgana, livre de poche, biblio essais, Paris, 1995, p104.
[7] Ricoeur (Paul), Du texte à l’action, Essais d’herméneutique II, édition du Seuil, Paris, 1986.p61
[8] ريكور (بول)، الذاكرة، التاريخ، النسيان، ترجمة جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتحدة، ليبيا، طبعة أولى، 2009، ص55
[9] Dastur ( Françoise) , de la phénoménologie transcendantale à la phénoménologie herméneutique, in Paul Ricœur , les métamorphoses de la raison herméneutique, sous la direction de Jean Greisch et Richard Kearney, les éditions du cerf, 1991, p41
[10] العيادي عبد العزيز، مسألة الحرية ووظيفة المعنى في فلسفة موريس مرلوبونتي، مرجع مذكور، ص416
[11] ليفيناس (عمونيال) ، الزمن والآخر، ترجمة منذر عياشي، دار نينوى، دمشق، سورية، 2015، ص57,
المصادر والمراجع:
Merleau-Ponty (Maurice), Phénoménologie de la perception, édition Gallimard, 1945, réédition « Tel » , Paris,
Levinas (Emmanuel), Totalité et infini, essai sur l’extériorité, le livre de poche, coll. « Biblio essais », Paris, 1990.
Levinas Emmanuel, Altérité et transcendance, édition Fata Morgana, livre de poche, biblio essais, Paris, 1995, p104.
Ricœur (Paul), Du texte à l’action, Essais d’herméneutique II, édition du Seuil, Paris, 1986.
Paul Ricœur , les métamorphoses de la raison herméneutique, sous la direction de Jean Greisch et Richard Kearney, les éditions du cerf, 1991,
العيادي عبد العزيز، مسألة الحرية ووظيفة المعنى في فلسفة موريس مرلوبونتي، دار صامد، تونس، طبعة أولى، 2004
ريكور (بول)، الذاكرة، التاريخ، النسيان، ترجمة جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتحدة، ليبيا، طبعة أولى، 2009،
ليفيناس (عمونيال) ، الزمن والآخر، ترجمة منذر عياشي، دار نينوى، دمشق، سورية، 2015،
غادامير (هانز جورج)، الحقيقة والمنهج،الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية، ترجمة حسن ناطم وعلى حاكم صالح، دار أويا ، ليبيا، طبعة أولى، 2007.
كاتب فلسفي
[1] غادامير (هانز جورج)، الحقيقة والمنهج،الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية، ترجمة حسن ناطم وعلى حاكم صالح، دار أويا ، ليبيا، طبعة أولى، 2007. ص344.
[2] Merleau-Ponty (Maurice), Phénoménologie de la perception, p371.
[3] Merleau-Ponty (Maurice), Phénoménologie de la perception, édition Gallimard, 1945, réédition « Tel » , Paris, p213.
[4] العيادي عبد العزيز، مسألة الحرية ووظيفة المعنى في فلسفة موريس مرلوبونتي، دار صامد، تونس، طبعة أولى، 2004ص328
[5] Levinas (Emmanuel), Totalité et infini, essai sur l’extériorité, le livre de poche, coll. « Biblio essais », Paris, 1990.p83.
[6] Levinas Emmanuel, Altérité et transcendance, édition Fata Morgana, livre de poche, biblio essais, Paris, 1995, p104.
[7] Ricoeur (Paul), Du texte à l’action, Essais d’herméneutique II, édition du Seuil, Paris, 1986.p61
[8] ريكور (بول)، الذاكرة، التاريخ، النسيان، ترجمة جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتحدة، ليبيا، طبعة أولى، 2009، ص55
[9] Dastur ( Françoise) , de la phénoménologie transcendantale à la phénoménologie herméneutique, in Paul Ricœur , les métamorphoses de la raison herméneutique, sous la direction de Jean Greisch et Richard Kearney, les éditions du cerf, 1991, p41
[10] العيادي عبد العزيز، مسألة الحرية ووظيفة المعنى في فلسفة موريس مرلوبونتي، مرجع مذكور، ص416
[11] ليفيناس (عمونيال) ، الزمن والآخر، ترجمة منذر عياشي، دار نينوى، دمشق، سورية، 2015، ص57,
© 2016 Microsoft الشروط الخصوصية وملفات تعريف الارتباط المطوِّرون العربية