من عذرية المدينة الفاضلة الى اغتصاب نموذجها الهارموني
مدخل : أن الواقع التوصيفي و الافعالي و الذواتي التي تسعى إليه روايات علي بدر ما هو إلا ذلك التحول الذي يكمن في إنتاج محاورات صفاتية ملموسة تتعلق بأرتسامية مكنونها الأستيعابي الراجح ضمن أدلة تمظهرات سيميائية الأزمنة و الأمكنة و الشخوص التي تصبح و مع مرور تمظهرات و مجسدات رؤية المؤلف الى دائرة ذاتية استفهامية تنتج من خلالها تحكمات حضورية خاصة تنقاد و بالعفوية الإنتقائية نحو مركبات منكشفة و غير منكشفة في حقيقة وجودها التعيني المحدد و اللامحدد . أن حقيقة منبعية الأفكار في رواية ( عازف الغيوم ) للروائي نفسه أخذت في مدار حبكتها الأظهارية المضمرة أفقا واسعا في سلسلة ظهوريات موجوداتها الشخصانية / الحلمية / اليوتوبية / النفسانية حتى لتغدو لنا في شكلها الحياتي المقرون و المقروء بواسطة محايثات الأستقطاب الواصف لجملة شرائط و مقدمات مظاهر زمنية تتصل إتصالا جهوريا بدءا من نقطة الحوار الأولى في مركز عتبة الأستهلال وصولا الى درجات تلقائية المتحكم القرائي العام المنبث في اطار فيوضات المتن السردي أو في قيود الشكل و الإجرائية المتحكمة بمصائرية حدوثيات المخصوص النصي المتفرع . و أما من جهة التأليف لموضوعة و أدوات هذه الرواية . فالموضوعة نجدها تؤول نحو حزمة أدلة سياقية و نفسانية و ذهنية مبعثها مسبب ترابط وجهة التمثيل في حدود أفق من العلاقات المحكية التي من الممكن إحالتها نحو جهة الأنتاجية المحققة داخل دائرة إيهامات الأختلافية النصية في نظرية و نظر سيرورة المحور المركزي في اطلاقية لحظة داله المجتهد في صناعة وصقل هوية الشخصية الروائية المتذبذبة في النص . أن فعل قراءة أحوال و ممكنات ظاهرة الشخصية الروائية في رواية ( عازف الغيوم ) لربما تقودنا نحو تلك النمطية التي وجدناها في جملة صنيع موضوعة الروائي علي بدر في بعض تشكلات و نماذج رواياته السابقة كرواية ( الكافرة ) تحديدا . فهناك ثمة انطلاقية مشتركة في جامعية محققات إنشاء موضوعة رواية ( الكافرة ) و رواية (عازف الغيوم ) أي بمعنى ما تبدو هناك مؤولات موضوعية متقاربة ما بين شكل موضوعة الرواية الأولى أي رواية ( الكافرة ) و بين رواية ( عازف الغيوم ) . على أية حال نحن الآن ليس بصدد دراسة مقارنة بين عوالم خصيصة التقارب بين صفات موضوعة الروايتين في منتج الروائي : ولكن أحببت التنويه هنا على أن جل خلفيات صناعة الرواية لدى علي بدر أحيانا لا تكن معبرة في حدود استثنائية متفردة ، بل أننا وجدناه في بعض رواياته أحادي التوجه في الرؤية و زاوية تكوين الموضوعة الفنية كما و وجدناه في بعض أوجه رواياته غير مبال للقيمة التواصلية الهرمية في خطية الأشكال الأولية في أفق مسارات موضوعته الروائية التي كل ما يشغلها في الحقيقة سوى فكرة الرجل الشرقي المتعطش لحياة الخمر و أجساد النساء و التجوال الطويل في شوارع المدن و البحث عن الجديد من الحانات
( الفعالية التحيينية في انتاج العلاقة النصية )عندما يتم ربط النتائج السابقة بالدليل المركب ـــ الرواية ـــ يتضح أنه لا يمكن ان ينتج إلا عبر مراحل يكون من خلالها الدليل التحييني على هيئة شاهدية الممثل وصولا الى برهانية المؤول السردي في مشاهد النص .. بمعنى ما أنه يتدرج عبر مراحل تبدأ من تشكله في صورة فكرة وصولا الى حدود لحظة تحوله الذروية الى موطن تواصل تماثلية و اظهارية في دليلها الدال سرا و جهرا . أي الى حدود تحوله الى نص يسمح بأنطلاقه نحو سيرورة تلقي الآخر له .. من هنا لعله يسمح لنا هذا الفهم المدخلي الى عرض محطات وحلقات رواية ( عازف الغيوم ) هذه الرواية التي أخذت مع شخوصها الخيالية شكلا من أشكال أمكانية فهمها على أن دليل تحركها في نمو المحكي كان مصدره ذريعة اعتبارية و إيهامية تربطها وشائجية ما تقترب من أفق الأعمال اليوتوبية غير أنها تخالفها في حقيقة أشكالها الجوهرية المرتبطة بمؤسس مستوى ( الفكرة / التدلال الذهني / الدليل الانتاجي) أن شخصية نبيل محور سياق المركز الروائي ، يبدو كشخصية روائية تخالطها مجموعة توجهات سلوكية غريبة فيما تتوفر فيها ثمة نوازع أهوائية و مزاجية و عاطفية شتى .. فهذه الشخصية كانت على وجه خاص شبه خيالية و هي تفرط في إجابة أحلامها في رحابة فضاء الانطلاق نحو شكل و محاولة جمع أجزاء وفيوضات تلك المدينة الفاضلة الفارابية ، التي لربما سوف تحتضن يوما ما تمظهراته كفنان يديم و يصين مفعول الشكاية و التذمر مع نفسه من أحوال و ظروف مدينته العراقية . و بناء على ما سبق لهذه الشخصية من مقدمات تعريفية خاطفة لعلنا نفهم وضعية اصطداماتها المتكررة كعازف للآلة التشيللو مع رجالات و فئات تلك الهيئات المسلحة الأرهابية ــ و ليس الأسلامية ــ كما كان يزعم لها الروائي في تسميتها بالأسلامية في مسميات أحداثه السردية . فقد أتضح لنا في أكثر من مناسبة واردة في حالات و مواطن النص السردي بأن الروائي نفسه ليس بفارق ما لديه بين الأسلام و بين اليهودية مثلا .. فهو كما يتضح من خلال موضوعات رواياته بأنه شخصية لا تعتنق أي ديانة في الكون ولا من جهة أيمانه بالخالق في أي مناسبة من المناسبات ، بل هو ببساطة شديدة يسجل لنفسه موهبة عظيمة في تدوين و وصف زخرف محاسن أجساد النساء الغانيات في الحانات و الفنادق الرخيصة كما و يتفنن في وصف جرعات و مذاق قناني وكؤوس الخمر و مطارحاته و همزاته مع البغايا على فراش لذة المحارم . على أية حال نحن لا نود تصنيف أحوال الرجل السلوكية في جملة دوافعه الموضوعية في صناعة موضوعة رواياته الخمرية لأن هذا الأمر يعود ببساطة لشخصه ذات الأهواء الشبقية أولا و أخيرا . وما علينا كقراء سوى الأهتمام بما يكتبه من لغة بنائية ساحرة في الفن الروائي . قلنا فيما سبق على حد ما أذكر بأن شخصية العازف الحالم نبيل الذي كان يحلم بتغيير العالم بواسطة آلته الكلاسيكية و أفكاره الهارمونية الأبعادية المغيبة و التي تتحدد بنقطة و ملامح فلسفة الهارموني وحكاية المدينة الفاضلة لدى الفيلسوف العربي الفارابي . ولكن الظروف السيئة لهذه لشخصية شاءت له في يوم من الأيام وهو في عودته الى داره الواقعة في حي يقع تحت سيطرة أولئك المسلحين وما حدث له أنه وجد نفسه فريسة سهلة أمام مخالب وأنياب أولئك الشخوص المدججين بأسلحة قتالية خفيفة وصولا الى أمر ردعه و أبتزازه بطرائق تسودها الأستخفافية والرعب ادت الى ضربه وتحطيم آلة عزفه التي تناثرت أشلاءها على قارعة الأرصفة فيما راح يتلقف بقايا حطامها ثلة من الأطفال ليتخذوها وسيلة ساخرة في ملهاتهم الطفولية العابثة . وحين نسعى لمسك فضاء الجزء الأول من زمن ذاكرة التصدير الأولي في أحداث الرواية لعلنا نعاين بأن المحور نبيل كان قد أتصل بوالده هاتفيا ليعلمه بأنه قد حسم أمره في قرار رحيله أو فراره من العراق بصحبة أحد المهربين في غضون أحداث يومه ليلا 🙁 لم يتردد الوالد بمحاولة اقناعه بالعدول عن هذه الفكرة الخطرة وأنه سوف لن يجد السعادة في المنفى وذكره بأحد أقاربه الذي عاش في أمريكا زمنا طويلا و أصبح تاجرا لنوع من السيارات الكلاسيكية / و بالرغم من المخاطر الكثيرة ولاسيما بعد الأحتلال الأمريكي للبلد إلا أنه عاد ليفتح محلا لبيع آيف سان لوران و بعض أنواع العطور الفرنسية ثم سرعان ما أغلقه بعد أن رأى الكساد الذي لحق بهذه البضاعة بعد الحرب ) ولما كان التخطيط السردي في أحداث الجزء الأول من الرواية قائم على تقنية الحوار الاستطرادي الرابط بأبعاده تلك . فقد بات تكوين حجة الأقناع لدى المحور نبيل تشكيلا متعددا في المداخل و المخارج للمحة رئيسة موحدة في التمادي لحلمه بالفرار خارج اللاوطن . أذ ثمة دوما إصرار من قبل نبيل العازف في الرحيل عن هذا البلد و قبل وقوع أحداث واقعة إهانته و تحطيم آلته الكلاسيكية من قبل أولئك القردة : ( ـــ ماذا تعني الحياة بالنسبة لك ؟ .. أنا لا أجد أية حياة هنا .. / ماذا تقصد أنت بأنك لا تجد حياة هنا .. لا أظن أننا سنختلف حتى على تعريف الحياة ؟ .. نحن نختلف ؟ ماذا تقصد أنت ؟ أقصد ؟ لا أقصد أي شيء أنا راحل هذا اليوم هذا كل ما في الأمر .. أغلق نبيل سماعة الهاتف مع شعور طفيف بالحزن .. و عاد لجمع أغراضه المهمة التي سيحملها معه ولاسيما بعض الكراسات الخاصة بالموسيقى و كتابين مهمين : واحد عن الهارموني و آخر كتاب شعبي عن علاقة فريق البيتلز البريطاني بفلسفة ما بعد الحداثة ) و تبعا لهذا الأمر أخذ والد نبيل يقلب و يراجع صفحات ذكريات حياته التي عاشها في عقد الستينيات و السبعينيات الجميلة مستغربا أطوار و طباع و لده نبيل التي كانت وفق أعتقاده الشخصي مائلة نحو التقلب . فيما راح يعلمنا السارد / الشخصية بحكاية عمه الذي كان قد درس فيما مضى في بلاد روسيا حيث كان أكثر استيعابا لحياته ــ أي نبيل ــ و قد أعلمتنا الشخصية الساردة بأن عمه كان رجلا منفتحا يدمن شراب الفودكا وصولا الى أنه يدخن السكائر و يرتدي قبعة أشبه بقبعة لينين . غير أن عمه قد وافاه الأجل منذ عامين بعد سيطرة تلك القوة الأرهابية على البلد. و تتوالى الأحداث بشخصية نبيل مع ذلك المهرب : (مسح نبيل بنظره السائق الجالس الى يساره من الأعلى الى الأسفل .. كان الأخير في الستين من عمره .. ذا سحنة ريفية .. بشعر أبيض .. وشوارب سوداء قاتمة كأنها صبغت بصبغ أحذية وهو الصبغ الذي يصبغه الفقراء عادة ..
يرتدي بنطلونا صناعة صينية رخيصة .. وقميصا موضة محلية لشخص أصغر من عمره لتلك الأيام .. كان الشكل يذكره بممثل أفلام مصرية يعمل بوصطجي على الدوام .. حاول تذكر أسمه لكنه لم يفلح .. ففضل أن يجلس الى جواره دون أن يعيره انتباها ) من الواضح جدا بأن الروائي علي بدر ضحية كبيرة من ضحايا مواصفات و مكونات و ملامح و تقاسيم أوصاف كتاب الرواية البرجوازية الغربية بالنسبة لشخوص رواياتهم التي لا ينفك أحدهم فيها عن وصف أدق أدق سلبيات مظاهر الطبقة الهالكة من المجتمع . فمن عادة كتاب الرواية الغربية يكمن موصوفهم التهكمي لشخوص الطبقات التي هي أدنى من مستوى طبقاتهم . غير أن المدار الوصفي عند علي بدر قد حل في حدود السخرية و التعالي و المزاجية الذي لا يتم عنه أي نمو و بناء سياقي في فقرات المشاهد الروائية في نصه . سوى محض المحاكاة و التقارب و التناص و الزوغان بالمقابل مما يقرأه من روايات غربية و لكتاب شتى . مما جعلني ألتفت و أركز الى سطحية هذه الفقرة من تواصيف مشاهد الرواية . أنها ببساطة غير متممة لأي حالة من حالات المنظور السردي المتواجد في جمالية محكي الأنشاء العضوي في صورة فنية و ابداعية . بل أنها جاءتنا محض عبارات أهوائية نابعة عن قاع موهبة نرجسية متعالية . على كل حال نقول بأن في رواية ( عازف الغيوم ) هناك الكثير من الأشياء نسبية و الهامشية و التكرارية من السرد كما و في ذكرها من قبل الكاتب لا تقدم أي فائدة جليلة لبناء و قراءة أحداث النص إجمالا . الشيء الأكثر أهمية في الرواية هو كيفية وصول نبيل الى تلك المراحل من قراره في الرحيل و الأسباب القاصمة التي دفعته الى مثل هكذا أمر . فهو و في كل مرة مع نفسه يراجع أحداث سلسلة إذلاله و اهانته من قبل فئة المسلحين في الحي الذي كان يقطنه : (من زمان فكر بالهروب الى أوربا و لكن لم يكن الوقت قد حان فعلا .. أما الآن فقد حان فعلا .. ها هو الآن جنب المهرب الذي سيقوده الى المكان المحلوم به .. الى الحياة فيما وراء البحار .. تذكر بيتين من الشعر تضمن هذه العبارة .. لكنه لا يتذكر الشاعر .. سنذهب هناك الى مدينة فاضلة تقع وراء البحار .. هناك حيث الفنان فيها كما لو أنه يعزف الموسيقى في الغيوم .. لكن السؤال الذي طرحه نبيل تلك اللحظة على نفسه .. ـــ هل يمكن الوصول الى المدينة الفاضلة أو الحياة الكائنة وراء البحار أو التي يسميها الشعراء المكان الآخر .. بسيارة تشبه سيارة توصيل البيتزا و بمهرب يشبه بوصطجي !) يمكننا أن ندرج في سياق العنونة الخاصة برواية ( عازف الغيوم ) نوعين من العناوين .. الأول مجازي يحقق أدبيته عبر الإيحاء القصدي .. و الثاني تقريري مباشر كحالة من حالات سرد المؤلف التي جاءتنا في مواضع كثيرة من الرواية حيث تتسم بطابع التحليق في دوائر الأستطرادية المتبدية في سطور أحداث النص الأخبارية .
( خيوط التوتر تؤول الى تمسرح العقدوية الروائية) في فضاء أحداث رواية ( عازف الغيوم ) تواجهنا بالعموم الأعم ثمة حالة من البناء المشهدي المتمسرح و التي من شأنها صيانة و دعم و تسريح آفاق نوعية الحبك المشهدي في دافعية تمكينات خاصة من التحفيز السردي المتمسرح في قابلية آلية العرض و التركيز اللقطاتي في الصورة السردية . أن هذا الشكل البنائي و الأسلوبي وجدناه تحديدا في مصورات مشاهد أحدى فصول توقف سيارة المهرب الزرقاء في مكان ناء صحراوي حيث بدا الشخصية نبيل لا يعرف أين هو تحديدا من موقع خروجه مع ذلك المهرب : (أين نحن الآن ؟ لم يجبه المهرب الذي بدا عليه القلق الأكيد وهو يتصل بالموبايل بشخص آخر ) و تسعى آلية الأشتغال الأستفهامية السردية نحو انطلاقة متمسرحة حوارية قادمة من حدود الجملة الاستفهامية القلقة ( أين نحن الآن ؟ ) إذ لاحظنا بعد ذلك عدم إجابة المهرب الذي بدا عليه القلق الأكيد وهو يتصل بالموبايل مرات و مرات . وهذا المشهد بحد ذاته يروي لنا حجم وقابلية التمسرح و الانفلات من وجه مساءلة نبيل للمهرب . وفي هذه الأداة الاستفهامية من جهة نبيل و التي تمثل بحد ذاتها خصوصية التمسرح ما بين فعل الحكي حيث يتقدم نحو تشخيص ذلك الفاصل الزمني بين دوافع الخروج من البلاد و بين عاملية البحث المكاني و الزماني و سبر حافزية المكبوتات الباطنة في تثوير النتيجة الشكوكية لدى الشخصية نبيل : ( ذلك أنه من غير المعقول أن يذهب الى أوربا بهذا النوع من السيارات ومع شخص بهذه الهيئة وهذا الوجه الذي يفتقر الى أي ملمح من الذكاء / هل كان نبيل محقا بأهتمامه بواسطة السفر ـــ نوعية السيارة ــ و شكل المهرب أكثر من أي شيء آخر ؟ / لكنه كان محقا بهذا أيضا ذلك أنه خائفا لئلا يكون الأمر كله من قبيل النصب و الأحتيال و ما أكثر هذه الأشياء في تلك الفترة . ) وهنا نلاحظ كيفية تجنيد الروائي السرد في حدود هذه التعليقات المتمسرحة استفهاميا و المشخصة ضمن مضاعفات واقعية من شأنها تحفيز مسار الحركة التصاعدية بالتراكم العقدوي السردي : ( أكثر من خمسة عشر دقيقة أمضاها نبيل وهو يرقب السائق الذي يحاول الأتصال برفيق له دون جدوى .. بعدها أغلق سائق السيارة الهوندا الهاتف و نظر لنبيل بحيرة مقلقة .. و قبل أن ينطق بأي كلمة جاء اتصال و أخذ يتكلم مع الشخص المعني / في تلك اللحظة تغيرت نبرة السائق .. شكله .. معنوياته .. و انعكس هذا على نبيل و أثر به .. حيث أنفرجت شفتاه عن ابتسامة أيضا وهو يرى سائق الهوندا يتحدث مع الشخص المعني و يحدد له مكانهما .. وحين أغلق الهاتف قال لنبيل مبتسما : ــ هاي فرجت !سيأتي المهرب بعد قليل ليأخذك و يدخلك تركيا : ـــ يعني أنت لست المهرب ؟ : ـــ لا أنا سائق تاكسي أوصلك للحدود لا علي بالأشياء الباقية : ـــ المهرب سيأتي قريبا ؟ ) و في حركة التوتر الحوارية المتمسرحة تلك يوجد تشخيص مخصوص بدلالة التقويس للحالة العقدوية في فضاء اللقطة السردية ( سيأتي المهرب = قصدية لا تحديدية = ترقب = حالة انتظار = لا حقيقة = تمسرح بلغة غير متوازنة = تقدم = تأخر = ضياع . ) و قيمة هذه اللقطات العقدوية أنها تقدم لنا حالة التمسرح المشهدي بثلاث فقرات … الأولى تكون تحركية يمتزج من خلالها الزمني و الذاتي و النفساني و تكون فيها شخصية الغائب ــ المهرب ــ هي الموجه لمسار الفعل السردي : و الفقرة الثانية تكون لغة السرد الممسرحة شبه غامضة وانغلاقية وسكونية حيث تدنو من دور من يسعى للكشف عن حالة إقفال ما : أما الفقرة الثالثة فتبدو قريبة من حدود الأستدلال في خصوصية تشخيص من هوية القادم أو اللاقادم : ( سأذهب .. أنت مجنون !أنت لن تتحرك أن لم يأت أحد و يأخذني من هنا !) وهكذا يسبغ الروائي مفارقة انتظار مجيء المهرب الأصلي الى المكان حيث تسود مشاعر نبيل حالات شجية من أفق تمسرح عقدوية القلق في أفق اللحظات الشعورية التي كانت تنتاب روحية احوال الشخصية فيما تنبني في الوقت ذاته ثمة خيارات نفسانية كان قد اقترحها نبيل حول نفسه وقد جاءتنا على لسان ضمير المتكلم : ( حين أختارنبيل الرحيل الى أوربا .. أختار لنفسه اسهل الطرق مع أنها أكثر ارتفاعا في الأسعار .. فهو لا يريد ان يذهب في زورق مطاطي من أزمير في تركيا الى اليونان ثم ينقلب الزورق و يصبح طعما للأسماك / كان مجرد التفكير في هذا الأمر يجعله يرتعد لذلك أخذ نصيحة من أحد أقاربه .. هو أن يذهب بشاحنة واحدة تأخذه من الحدود التركية و تلقي به فورا في بلجيكا .. يعني لا حدود و لا شرطة ولا خفر سواحل ولا انقلاب الزورق المطاطي . )
( حملية الدليل المضمر نحو حاضرية الدليل المظهر ) وعند ذروة صعود الشخصية نبيل الشاحنة التي حملته من وهم ذلك المكان الموحش حتى بات الأمر محض ذاكرة عابرة لاسيما و بعد جنوحه الشخصية نحو حاضرية الدليل المضمر : ( جلس الى جانب السائق التركي الذي لم يكن يحسن إلا بضعة كلمات أنكليزية ) و تبعا لهذا الأمر أضحت العلاقات المكانية / الزمانية أمام نبيل كمؤشر واقعي حتمي وهو في طريقه نحو مدينته الفاضلة أوربا . غير أنه وبعد مسافات صراعية شاقة في توقعات مخيلة نبيل لمحبوبته أوربا التي باتت من خلالها المسافات الشاقة في جوف صندوق الشاحنة كما لو أنها نسمات ثلجية تطرب صدر نبيل المخبوء في ظلمات الصندوق . : ( هكذا سافر نبيل داخل صندوق في شاحنة مغلقة .. لذا فهو يرى الطريق في الخارج لا يعرف من أين دخلوا ولا أين وصلوا .. السيارة تسير فقط .. وهو في صندوق يحسب الساعات التي تمر ساعة بعد ساعة أخرى .. ما كان يقلقه هو نصب و أحتيال المهربين / ماذا لو لم تكن هنالك رحلة الى أوربا ؟ هكذا قال في نفسه .) و تمنحنا فيوضات الدليل المضمر في نجاة نبيل الى أرض بلجيكا ثمة حلقات صراعية تشويقية هائلة أجاد صنيعها الروائي المبدع علي بدر لاسيما وهي تتجسد في سيناريو وصول الشاحنة أخيرا نحو مكان غرائبي خرب ليس فيه رائحة ما تدل على أن الشاحنة متوقفة في مرحلتها النهائية من المكان المراد لنبيل : ( قال له المهرب بصوت خفيض وهو يتلفت كأنه يبحث عن شخص ما : ــ أهبط بسرعة هذي هي بروكسل .. بروكسل صحيح ؟ .. بروكسل ؟ .. معقولة ؟ لم يكن نبيل مصدقا أول الأمر .. فما أن هبط حتى رأى بمواجهته ساحة مظلمة .. قذرة .. لا تتميز عن أي ساحة في العالم الثالث .. هبط ببطىء وهو يجر حقيبته وراءه )
( أشباح المدينة وتركات المهاجرين ) وعند وصول الشخصية نبيل و المبيت ليلة كاملة في غرفة داخل نزل خاص بالمهاجرين قد أرشده إليه المهرب بعد مغادرته المكان مسرعا .. أكتشف نبيل أنه يقطن حي من أحياء بلجيكا كان مخصصا للمهاجرين الأسيويين و الأتراك حيث كانت منازل المهاجرين القديمة و البارات الأفريقية و واجهات المطاعم التي تقدم الحمص و الفلافل : ( أه أنه الشيء ذاته البنايات كأنها تتشابه المطاعم تقدم الطعام ذاته .. أنتبه نبيل الى حقيقة أخرى .. أستمدها من فهم الفارابي للموسيقى العربية التي تقوم على التكرار / أنما يتعدى ليصل الى نظرة العربي الروحية للزمان الدائري الذي يحكم الكون)
( تعليق القراءة ) من خلال أحداث رواية ( عازف الغيوم ) لاحظنا بأننا أمام (سرد دائري ) حيث يستثمر تقنية المتخيل الاستعادي ضمن نسق وعي يضاعف تجاوبات بنية الفقدان الدالة بوظائف بنائية ودلالية ثرية و أكثر ملامسة بمسار المعنى القصدي . تعرف نبيل في غضون رحلته اليوتوبية على شخصية الفتاة البلجيكية فاني وعاش و إياها ساعات مرعبة من الحب في شقتها التي هي خارج حدود حي المهاجرين . ولكن للأسف الشديد نقول لم تتحقق لنبيل فكرته حول جمع أجزاء مدينته الفاضلة بل أضحى الأمر عكسيا تماما : ( كان عليه أن يخرج عددا كبيرا من الناس من قائمته و أولهم هذا التركي الذي ضربه و حطم آلته الموسيقية / كل يوم يصطفي نبيل من عامة الناس مجاميع متفرقة .. يختارهم من ذوي الأجسام الرياضية و من موسيقيين و فنانيين و حرفيين و فلاسفة و نساء جميلات / على العموم كانت هذه المحاولات الخيالية هي تمرين على معرفة الناس .. فهم الناس .. التعرف على اللغة / كان هنالك نوع من البحث في الكتب القليلة التي يتمكن من الحصول عليها وقراءتها .. ومن قصاصات فاني الغامضة التي تكتبها مثل يوميات من حياتها .. ) هكذا تتوالى صور محاولة انشاء مدينة نبيل الفاضلة وصولا الى حالة البحث عن مقومات و شرائط بناء تلك المدينة الى ذروة واقعية ناقصة مفقودة تماما خاصة وأنه أقر بذلك أخيرا : (ماذا يصنع ؟ لم يتمكن بعد من شراء آلة تشيللو ليواصل عمله في الموسيقى .. لابد من أختراع شيء آخر .. لا يمكن إيجاد مدينة فاضلة .. بل شيئا فشيئا أصبح يدرك أن المدينة الفاضلة التي كان الفارابي يتكلم عنها هي من المتخيلات ) و يمثل نهاية رواية (عازف الغيوم ) هو بعزوف بطلها عن حلمه في انشاء مدينته الفاضلة وذلك بسبب عدم توفر حافزية ذلك المجتمع لتلك المدينة الخيالية في زمن موضوعة خراب الأرواح و فساد الأماكن و العقول . لذا تنتهي الرواية بشواهد نمطية باردة خلف حياة الشخصية التي راحت تتلمس لها الحياة في زوايا الوجود التقليدية و المركونة في قاع أحلام قاع قلبه ببقايا خرافة أحلام مدينته الفاضلة و هي تغتصب في عذرية نموذجها الهارموني المميت .