الظاهرة هي فعل تمارسه جموع من البشر، أو هم يتعرضون له أو يعانون منه أو من نتائجه .وحينما تكون الظاهرة ذات بعد سيء وسلبي ، ولكوني أستاذا في علم الاجتماع وباحث اجتماعي فقد تعرضت لأسئلة من قبل بعض الأصدقاء والمقربين عن سبب تحلق جماعة مقتدى حوله وإطاعتهم العمياء له رغم كون مقتدى الصدر لا يمتلك المؤهل العلمي أو المشروع المنطقي الاجتماعي أو السياسي المعقول بحيث يستطيع بهكذا أدوات عقلية وعلمية وموضوعية من جعل بعض الفئات تلتف حوله وبما إن مقتدى الصدر لا يمتلك تلك الأدوات والمؤهلات بل انه يفتقر حتى إلى العوامل الطبيعية للجذب الجمعي كقوة المنطق أو الخطاب المقنع أو المشروع السياسي الفعلي .. ولكن كيف استطاع مقتدى الصدر من تحريك هذه الكتلة البشرية التي نستطيع أن نطلق عليها الكتلة العمياء التي لا تفكر ولا تتأمل ولا تدرس الواقع ومن ثم لا تدرس النتائج المترتبة لسلوكياتها المنحرفة ؟ في الحقيقة ولنظرة أولية على طبيعة الجماعة التي التفت حوله ودعمته نجد أن ثقلها في مدينة الصدر ، وبنسبة أقل في بعض المحافظات الوسطى والجنوبية والتي لا يكون لها تأثير إلا بحسب وقوع تلك المحافظة في واقع سابق لا يعدوا أن تكون محافظة مسحوقة أو قليلة الثقافة أو شعورها بالدونية أو قد تكون مارست السلوكيات المليشياوية أو أسلوب العصابات .. وقد عصفت بالعراق أحداثا جسيمة خلقت جوا نفسيا وسلوكيا خاصا ، وهذه مسألة طبيعية لنتائج الحروب الطويلة ، فشعور مجتمع بأنه مهدد وخوفه المستمر من قاعدته الرخوة المقلقة المثقلة بالهموم والفقر والجوع والانهزامية لأنه لم يستطع أن يرتفع إلى مجتمع الطبقة الوسطى اقتصاديا يستدعي هكذا مجتمع للانضمام والتضامن مع بعضه بغض النظر عن ثقافة ونوع القائد الذي يقوده سواء كان سلبا أو إيجابا , ولأن الحرب الطويلة قد أكلت من أبناء مدينة الصدر ومدينة الناصرية الكثير بسبب انخراطهم في سلك الجيش وموت الكثير منهم في هذه الحروب فولدت أجيالا من الأيتام والأرامل التي لم تعتن بهم الدولة ولم تولهم الرعاية الحقيقية وتركتهم يواجهون أعباء الحياة المعقدة والكثافة السكانية وما رافقها من تطور في التكنولوجيا التي وضعت كالأسفار فوق ظهورهم لا يعرفون كيفية استخدامها إلا بالقدر الذي تدركه عواطفهم وأهوائهم وغرائزهم ، فتولد في مثل هكذا مجتمع حالة الانفتاح على القادمين إليه من اجل محاولة الاندماج بسبب شعورهم بأنهم طبقة مسحوقة وترغب في استقبال كل ما يدخل إليهم لمجاراة التطور السكاني أو الاقتصادي ليكونوا ضمن الحلقة أو الدائرة الشعبية ولا يكونوا خارجين عنها كما في مدينة الصدر ، أو على النقيض من ذلك وهو محاولة الابتعاد عن المجتمعات والانعزال ومحاولة تكوين شخصية مستقلة تحافظ على ثقافتها الجمعية المنفلتة كمدينة الناصرية التي لا تسمح الآن بدخول أشخاص إلى مدينتهم قادمين من محافظات أخرى إلا بتقديم كفيل .إن انحراف الشباب في الطبقة الدنيا أو الفقيرة يرجع إلى إحباطهم الشديد بسبب شعورهم بتدني منزلتهم الاجتماعية الناشئة عن انتمائهم لطبقة اجتماعية دنيا يولدون بها. وحيث إن الثقافة المسيطرة في المجتمع هي ثقافة الطبقة الوسطى فإنهم لا يستطيعون التكيف السليم معها وبالتالي يكون الانحراف . إن معايير التقدم والصعود في السلم الاجتماعي مرتبطة بتمثل قيم الوطنية وحب الوطن في المجتمع والالتزام بمعاييره والمساهمة الفعالة والجادة بنشاطاته بل والمشاركة الوجدانية لخدمة أهداف هذا المجتمع في الحياة . تتميز القيم والمعايير التي تشيع بين أفراد المجتمع السوي في الرغبة في الصعود إلى أعلى وتحمل المسؤولية الشخصية لكل فشل أو نجاح وتأجيل الرغبات حتى يحين موعد تحقيقها واحترام الوقت والتخطيط السليم. وبما أن المجتمع يخضع أبناء الطبقة الفقيرة إلى قيم الطبقة الوسطى ووفقا لمعايير هذه الطبقة التي لم يعهدها أبناء الطبقة الدنيا في تنشئتهم السابقة ولذلك يجدون أنفسهم في منزلة اجتماعية أقل من غيرهم نتيجة عدم قدرتهم على المنافسة في ثقافة وقيم لم ينشأوا عليها. ونتيجة لذلك يشعر أبناء الطبقة الدنيا بعدم الجدوى في السعي وراء طموحات لا يستطيعون تحقيقها من خلال انتمائهم إلى طبقتهم الدنيا ولذلك يخلدون إلى اقتناعهم بالبقاء حيث هم. يشكل هذا الشعور بعدم استطاعتهم مجاراة ثقافة الطبقة الوسطى السبب الجوهري في نشوء الانحراف وعصابات الأطفال والشباب الجانحة حيث يسعى هؤلاء إلى تنظيم أنفسهم في تنظيمات اجتماعية ودينية او عقائدية فاشلة تجمع أفرادا متجانسين في غالبية خصائصهم الفردية وظروفهم الاجتماعية ويعانون من إحباطات متشابهة. يصبح السلوك المنحرف الذي يصدر عن أفراد العصابة جزء من ثقافة سفلية فرعية ينتمي إليها الشاب الجامح لأنها تحقق بالنسبة إليه ما لم يستطع تحقيقه في إطار الطبقة الاجتماعية العادية وما لم يستطع تحقيقه خلال تنشئته الاجتماعية المتصلة بهذه الطبقة.وبذا يصبح الانحراف والجنوح محاولة للتوافق مع معايير حقبة جديدة لم يعهدها الشاب المنفلت في إطار العيش في طبقته ولذلك فإن انحراف المراهقين هنا يمثل ثورة على معايير وثقافة المجتمع ومجمل القول أن هذه النظرية تقوم على فرضية التناقض القيمي الذي يقوم بين ثقافتين إحداهما ثقافة عامة والأخرى سفلية فرعية تقوم على هامش الثقافة العامة ممثلة في ثقافة أبناء الطبقة الفقيرة , وهذه الطبقة تجنح في نهاية المطاف الى عدة اهتمامات اساسية ..1- صنع المشاكل والشغب: ويتضمن ذلك الاصطدام مع المسؤولين عن الأمن كما يتضمن الأنشطة الفاسدة اللااخلاقية او ممارسة الكبسلة والادمان او السرقات او الجرائم وعمليات السطو وغيرها .2- القوة وشدة المراس: ويتضمن الاهتمام بالعنف والقوة الجسمانية والعضلية والمبالغة في إبراز السمات النرجسية .3- الدهاء والمكر او ما يسمى في الدارج بالتقفيص والعلس : والمتمثل في التغلب على الشخص المنافس بالقدرات العقلية.4- الشعور بالنشوة والمباهاة : ويتمثل ذلك في الاهتمام بإبراز النشوة والسرور الذي يشعر به المليشياوي في تعاطي القوة والبطش والممارسات المليشياوية .5- الاستسلام للمأساة والمعاناة : ويتمثل ذلك في شعور الشاب المقتدائي بأن مستقبله ليس في متناول يديه وانه مغلوب على امره وانه مجبر على تقبل الواقع الفاسد كما أنه ليس بالضرورة خاضعا للقوة القانون بل لاسباب سياسية او هيمنة مذهبية .6- الاستقلالية او الانطوائية وعدم تقبل الفكر الاخر : أن هذا الاهتمام يحتوي على عناصر متناقضة فهي تعني ظاهريا بالنسبة لأفراد العصابة الاستقلال عن الضوابط الخارجية كالالتزامات في العمل أو الالتزامات المنزلية بينما تعني داخليا خلاف ذلك وربما تعني أيضا لجوء المنحرف إلى الانطواء والعزلة فترة ما بعد مرحلة من صنع المشاكل والنشوة والكبسلة .7- الازدواجية : حيث تتصف هذه المجموعات بالازدواجية تحاول ان توازن بين ثقافتها القبلية ومجاراة الغزو الثقافي المتسرب بين مدنها فيمارسون الطقوس الدينية علنا والممارسات اللااخلاقية سرا .ويرجع كثير من الباحثين أسباب الانحراف لدى أبناء الطبقة الفقيرة إلى غياب دور الأب في الأسرة وقيام الأم بذلك بالإضافة إلى أن الانخراط في عصابة من المنحرفين الذين صبغوا انحرافهم بطلاء ديني يساعد المنحرف على تطوير وتنمية الحاجات والسلوكيات التي تتفق مع الاهتمامات المحورية للشاب المتسكع وهو يرجع ايضا الى اضطرابات نفسية .ان هذه الظاهرة في حقيقتها تريد الاحتماء بقوتها وبطشها وانفلاتها خوفا من الاخر ولتكوين قوة جمعية في مقابل قوة اخرى تعيش بالقرب منها مخالفة لها في المذهب او العقيدة او الفكر ولذلك يسعى بعض التجار لمساندة هذه الظاهرة لحماية تجارتهم واستمرارها حتى لو اضطروا لدفع الاتاوات والخاوات فهي اي هذه الظاهرة تحصل من هذا الباب على الاموال اللازمة لديموميتها واستمرارها او من خلال بعض السياسيين ورجال الدين المنتمين اليها ومن هنا فان بروز هذه الظاهرة ليس بدافع وطني او وازع ديني بقدر ماهو محاولة التضامن الجمعي بغض النظر عن مشروعيته او مصداقيته والاحتماء من القادم المجهول والدليل ان هذه الظاهرة لا تهتم بواقعها المتردي ولا تخرج للمطالبة بحقوقها او الدفاع عن بلدها وترابه وتبقى متقبلة للواقع طالما تركت بنوع من الحرية ولا يطالها القانون الا بقدر محدود جدا ولكنها تخرج وتتظاهر اذا دعاها قائدها مقتدى للخروج كردة فعل لانها قد تستشعر الخطر لو لم تستجب لقائدها اذ ربما ينفرط عقدها وتجمعها ..وهذه الظاهرة من السهولة انفراطها وتلاشيها وانهائها في حالتين .. الاولى عند فقدان او هلاك قائدها فانها سوف تتجزأ وتنقسم وتتشضى على نفسها وتضعف شيئا فشيئا او مداهمتها من قبل قوة اكبر منها عدة وعددا عندها سوف تترك قائدها او تنهزم بمجرد الاصطدام بعدوها وهذا ما حصل لكثير من الظواهر المنحرفة في التاريخ .