18 ديسمبر، 2024 7:14 م

«تاريخ إسبانيا المسلمة» لليفي- برفنسال: تنوير في عتمة القرون الوسطى

«تاريخ إسبانيا المسلمة» لليفي- برفنسال: تنوير في عتمة القرون الوسطى

منذ 1861، لم يكن أي مستشرق قد أقدم على وضع تاريخ مفصّل وموسّع للوجود العربي – الإسلامي في الأندلس. كان آخر مؤلف في ذلك المجال قد صدر في ذلك العام وواضعه كان الهولندي دوزي. ولكنّ دراسات وبحوثاً عديدة كانت منذ ذلك الحين قد ألقت أضواء جديدة على تاريخ الأندلس، بحيث إن الأمر بات في حاجة الى من يضع تاريخاً لتلك الفترة الذهبية من فترات التاريخ العربي – الإسلامي، يأخذ في حسبانه ما تم الكشف عليه. وهذا العمل انتهى بالمستشرق الفرنسي ايفاريست ليفي – بروفنسال، لأن يأخذه على عاتقه، فشرع في كتابة ما لا يزال يعتبر حتى يومنا هذا قمة عطائه، وأهم ما خُطّ في مجال التأريخ للأندلس.

> ففي كتابه «تاريخ إسبانيا المسلمة» الذي قسمه مؤلفه الى سبعة فصول، تناول فيها أربعمئة عام من تاريخ تلك المنطقة من العالم، بدءاً بوصول العرب اليها وانتهاءً بخروجهم منها، يستعرض المؤلف بتركيز ولكن مع قدر لا بأس به من التعاطف، ذلك التاريخ بادئاً بما سبقه: تاريخ الملوك الويسغوت والانحطاط الذي طاول ملكهم في أزمانه الأخيرة، ما سوف يسهّل على العرب الذين كانوا حينها في أوج ازدهارهم وصعودهم وقد مزجهم الإسلام مع البربر سكان الشمال الأفريقي، المهمة التي أخذوها على عاتقهم: الاندفاع شمالاً عبر البحر الذي لم تكن فتوحاتهم قد خاضت فيه من قبل. وهكذا لا يكتفي ليفي- بروفنسال هنا بتأريخه حملة طارق بن زياد بل لعدة حملات ومحاولات سبقتها كانت آخرها قبل طارق، حملة طريف بن ملوك عاماً قبل إنجاز بدايات الفتح على يد ابن زياد وجيشه. ويروي الكاتب هنا كيف ان حملة طارق، من جراء ضعف أصحاب السلطات المحلية والخيانات والانشقاقات بينهم، تمكنت بسرعة من الاستيلاء على قرطبة وما جاورها، ليلحقها موسى بن نصير وحملته التي استولت على إشبيلية ما آذن بإعلان أول إمارة هناك ارتبطت، وإن بصورة شكلية، بالخلافة في دمشق.

> وبأسلوبه الجزل المستند الى أعداد لا تحصى من المراجع، العربية بخاصة، يتوقف ليفي بروفنسال مطولاً عند حكم «عبد الرحمن الأول» الذي سرعان ما انفصل تماماً عن الخلافة في دمشق ليؤسس خلافة جديدة، أموية هي الأخرى لكنها لا علاقة لها بتلك المشرقية. ويتوقف الكاتب كذلك عند اثنين أساسيين من خلفاء ذلك المؤسس وهما عبدالرحمن الثاني ثم عبدالرحمن الثالث، ليصوّر لنا كم ازدهرت الأندلس في عهودهم، ثقافياً وعلمياً وحضارياً، وساد فيها قدر، غريب على تلك الأزمنة، من التسامح الديني والتعايش بين الأديان والأقوام «ما جعل العلماء والمفكرين والمبدعين بشكل عام يتدافعون آتين من كل البلدان والأصقاع إما مضطهدين في بلدانهم يأتون باحثين عن ملاذ آمن، وإما مجرد أصحاب فكر وآراء رأوا ان حرية الفكر السائدة في تلك البقاع أنسب لهم مما هو مقيّض لهم في أوطانهم». وهكذا، كما يرى ليفي – بروفنسال تضافر ذلك كله ليجعل من الأندلس ميدان حضارة لا مثيل لها، «بخاصة ان الخلفاء سارعوا الى الانفتاح على الدول والأمم الأوروبية المجاورة، وحتى البعيدة، يتبادلون معها الخبرات والأفكار والتجارة». غير أن هذا كله «سرعان ما انتهى حين راحت تتشكل الطوائف وتظهر الأطماع الفردية»، لتبدأ تلك الدولة بانهيار تواصل ما يقارب المئتي عام قبل أن ينتهي الحلم الأندلسي الى الزوال.

> إذا كان الكاتب قد كرس القسم الأول من كتابه للتاريخ السياسي للأندلس (إسبانيا المسلمة)، فإنه أرّخ في القسمين التاليين، وتباعاً، للنظم والقواعد السياسية التي اتُّبعت إبان حقبة الازدهار الأندلسي، ومن ثم للآداب والفنون والفلسفات والعلوم التي، من ناحيتها ظلت مزدهرة طويلاً رغم الانحطاط السياسي العام. وبهذا دوّن ليفي – بروفنسال تاريخ الأندلس كاملاً، ليتبعه على السياق نفسه عدد كبير من مؤرخين وباحثين، من الإسبان خصوصاً، بدّلوا كثيراً من النظرة التي كانت رائجة حول ذلك التاريخ.

> هنا لن يكون من غير المفيد أن نذكر ان الرجل بدأ بكتابة هذا المؤلَّف، بعد أن رحل الى مدينة تولوز، في الجنوب الغربي الفرنسي، في 1940، إثر الهزيمة الفرنسية، وبدء المثقفين اليهود، وليفي- بروفنسال منهم، بالشعور بالخطر. ونشير الى ان قوانين النازيين المضادة لليهود كادت تطبّق عليه في ذلك الحين لولا تدخل العديد من أصدقائه لدى السلطات النازية فاكتفت بإبعاده. وهناك في تولوز حيث أقام هادئاً مرتاح البال عكف الرجل على وضع كتابه الأشهر، الذي كان قد حفزه على وضعه أمران: أولهما خلو الساحة الثقافية من كتاب شامل وحديث حول ذلك الموضوع، وثانيهما النجاح الهائل الذي كان من نصيب كتابين آخرين له، في الموضوع نفسه تقريباً، كان قد نشر أولهما («إسبانيا المسلمة في القرن العاشر») في 1932 وثانيهما («حضارة العرب في إسبانيا») في 1938. إذاً، هكذا وضع ليفي – بروفنسال كتاب عمره، الذي صدر جزآه الأولان، على أي حال، في القاهرة تحت إشراف المعهد الفرنسي للاركيولوجيا الشرقية (1944) ثم عادت الأجزاء الثلاثة لتصدر معاً في باريس خلال الأعوام 1950 – 1953 فتضفي على ليفي- بروفنسال مجداً ما بعده مجد.

> ولئن كانت النزعة العلمية قد حدت بليفي- بروفنسال الى وضع ذلك السفر، فإن ما يمكن قوله هنا، ان جذور ذلك العالم التي تعود الى عصور الأندلس الذهبية، وولادته في مدينة الجزائر في 1894 حيث ترعرع في بيئة شرقية خالصة، شكلا دافعاً ذاتياً إضافياً. وليفي- بروفنسال تلقى دراسته الثانوية والجامعية في قسنطينة ثم في الجزائر العاصمة. وكان في بداياته متردداً بين الدراسات العربية والرومانية، لكن الجرح الخطير الذي أصابه حين كان جندياً في جيش الشرق خلال معركة الدردنيل حسم الأمر، اذ إنه أرسل الى الإسكندرية للعلاج، ومنها بُعث الى مراكش ليقود موقعاً عسكرياً قرب حدود الريف، فأحس بعودة ارتباطه العربي اليه وحسم أمره، حيث تابع دراساته العربية، وعين في العام 1920 في «معهد الدراسات العليا المراكشية» في الرباط، في الوقت نفسه الذي أعد فيه رسالتين للحصول على الدكتوراه. ومن خلال رسالتيه تبدى اهتمامه في ذلك الحين متمركزاً حول المغرب ومراكش، لكنه سرعان ما اتسع ليشمل إسبانيا الإسلامية، حيث – وفق تعبير د. عبدالرحمن بدوي – أدرك أنه لا يمكن الفصل بين تاريخ المغرب وتاريخ إسبانيا الإسلامية. وهكذا بدأ اهتمامه، منذ 1928، بهذا التاريخ الأخير، فأبدع فيه أعمالاً لا تزال تعتبر حتى اليوم مراجعه الأساسية.

> في بداية الثلاثينات توجه ليفي- بروفنسال الى مصر، حيث أقام فترة من الزمن طويلة مكنته من الإمعان في دراسة موضوعه ومن التعمق في دراسة التاريخ العربي والإسلامي بشكل عام. وهو بعد ذلك عاد الى الجزائر مسقط رأسه حيث عُيّن أستاذاً للتاريخ الإسلامي، لكنه عند نهاية الحرب العالمية الثانية وجد نفسه في فرنسا، حيث عاد من منفاه في تولوز، وقد تضخمت شهرته ومكانته، فعُيّن العام 1945 مديراً لمركز دراسات الشرق المعاصر، ثم في 1950 مديراً لمعهد الدراسات الإسلامية في جامعة باريس، وهو منصب شغله فترة، ثم عاد أستاذاً في الجامعة نفسها حتى وفاته في 1956، وبعد عامين من تأسيسه مجلة «آرابيكا» المتخصصة في «دراسة الآداب والعلوم الإسلامية».

> وحين رحل ايفاريست ليفي- بروفنسال عن عالمنا في آذار (مارس) 1956 ترك وراءه عدداً كبيراً من المؤلفات والتحقيقات، التي جعلت له مكانة أساسية في تاريخ الاستشراق الفرنسي المعاصر، كما خلف ذكرى رائعة لدى أصدقائه من كبار العلماء العرب والمسلمين في شتى أنحاء العالمين العربي والإسلامي. ومن أبرز مؤلفاته الى جانب كتبه «الإسبانية» الثلاثة التي سبقت إشارتنا اليها: «المخطوطات العربية في الاسكوريال» (1928)، «رسالة في الحسبة لأبي عبدالله محمد السقطي المالطي» (1931)، «كتاب أعمال الاعلام لابن الخطيب»، «مذكرات عبدالله آخر ملوك بني زيري في غرناطة» (1936)، «شبه جزيرة ايبيريا في العصر الوسيط بحسب كتاب الروض المعطار للحميري» (1938)، «الإسلام في الغرب: دراسات في تاريخ العصر الوسيط» (1948)، «جمهرة انساب العرب لابن حزم الأندلسي – نشرة نقدية» (نشرته دار المعارف في القاهرة ضمن سلسلة «ذخائر العرب»).
نقلا عن الحياة