لا تزال الأديبة المصرية سلوى بكر تختار ثيمة نصوصها القصصية والروائية بعناية فائقة، وخير دليل عملها الأدبي الموسوم “مقام عطية” أين يجد المتلقي نفسه يقرأ عن الكرامات الصوفية بطريقة تختلف عن كتب المتصوفة إلى حد كبير، وهذا يرجع للنموذج الذي قدمته الكاتبة من خلال شخصية “عطية هانم” التي تعتبر في الأساس امرأة من مصر اشتهرت بين جيرانها وكل من يعرفها بكرمها وحسن أخلاقها، والأهم ما في قصتها أنها كانت مجبولة على فعل الخير دون أدنى مقابل.
بطلة “مقام عطية” صحفية تدعى “عزة يوسف” تعمل كمحررة في مجلة الصباح، هذه الأخيرة تجد نفسها مكلفة بأمر من رئيس تحرير المجلة
بالتنقيب حول قضية مقام “الست عطية” الذي تشوبه الغرابة وجملة من التساؤلات الغامضة، وهذا يذكرنا بشخصية الصحفية “سوسن أبو الفضل” في رواية “ليل ونهار” لسلوى بكر.
استعانت الصحفية “عزة” بمجموعة من الشهادات لتصل إلى حقائق خفية يشوبها الكثير من الغموض والتأويلات، وكانت أولى شهادة لابن “الست عطية” المدعو “فؤاد” الذي كان قد غادر أرض مصر قبل وفاة والدته لمدة أربع سنوات ثم عاد فجأة ليسمع بحادثة نبش قبرها: “…فوجئنا بأن التربة مفتوحة وكانت مفاجأة كبيرة للجميع، ونزلنا فورا لنشوف ما جرى، وكان إحساسنا أنه لا بد أن تكون هناك سرقة لجثة المرحومة، لأن هذا يحدث كثيرا في الفترة الأخيرة بسبب طلبة الطب، وعملية التشريح، لكن المفاجأة الأغرب، هي أن الجثة كانت سليمة تماما، والكفن في حالة طبيعية، ما عدا أنه مشرط كما جرت العادة لمنع سرقته، وكان التربي هو الذي لمح أولا ذلك الشيء الذهبي الغريب، والذي كان يبدو أقرب من حيث الشكل، إلى هيئة زهرة اللوتس…” (ص 08).
كلنا يعرف أن لصاحب الكرامة مؤشرات تتناقلها المرويات بين الناس شفويا، لكنها في كثير من الأحيان تكون محملة بالكثير من الخرافات والأساطير مما يجعل صاحبها محل الشكوك والنقد كما هو حال زوجة صاحب العمارة بالحي التي وصفت صاحبة المقام في شهادتها كما يلي: “…فرأيي أن عطية لم تكن امرأة محترمة أبدا، فسلوكها كان سوقيا وبلديا جدا، كانت تصاحب من هب ودب، وتدخل بيتها الصعاليك والشراشيح، وتسامرهم وتجاريهم في الكلام، ولم تكن ربة بيت بأي حال من الأحوال، فهي تطبخ طبيخا لا يمكن أن يأكله ابن آدم، ولا حتى الحيوان، وبيتها كان وسخا دائما، من كثرة دخول وخروج الناس منه…” (ص 15).
لقد بدأت ملامح كرامات “عطية هانم” تظهر منذ ولادتها، وكأنها كانت محاطة بسر سينكشف فور وفاتها كما يقول عن ذلك “الشيخ سعد” الذي أحبها ولكن القضاء والقدر لم يجعلها من نصيبه: “…إني أعرف الست عطية أبا عن جد، فجدها هو الذي ربى أبي، لما مات أبوه، وأبوها كان ندا لأخي في صباه وشبابه، ولما أعطاه الكريم عطية بعد أن مات لامرأته سبعة ذكور، أسماها بذلك الاسم، تيمنا بعطاء الله، وامتثالا لإرادته بعدما أن أظلمت الدنيا في وجهه، وهو صابر على الأمر، فلم يطلق امرأته، ولم يتزوج عليها بأخرى، وكانت عطية التي ولدت بعدها – كما كانت تحكي أمي – طفلة غير عادية الحجم والنمو، وربما كان ذلك بسبب أنها أرضعت لبن حمار، فور ولادتها، بناء على وصية، امرأة غجرية ضاربة ودع، كانت قد تنبأت بمولدها والله أعلم.” (ص 10).
أعادتنا المبدعة سلوى بكر إلى عالم الكرامة الصوفية حيث استخدمت بذكاء تقنية الراوي العليم الذي يسعى جاهدا في إبلاغ الحدث، وهم في روايتها القصيرة هذه الشهود الذين عايشوا “الست عطية” وتفاعلوا معها أو تعاطفوا مع قصتها كما هو شأن شخصية “الطالب الجامعي” الذي شارك في حمل نعشها إلى الجامع لأداء صلاة الجنازة: “…وفجأة وبينما نحن سائرون، دون أية مقدمات، غيم الجو وهطل المطر، وساعتها بدأت حاجة غريبة تحصل، فالنعش بدأ يخف وزنه ويفلت من أيدينا، وينطلق بأقصى سرعة إلى الجامع، وبقينا نتشبث به ونحاول تثبيته ونحن نجري مع سرعته حتى لا يفلت منا ويقع في الوحل، وقد شعر بهذه المسألة نفسها كل الذين حملوه معي، وكانوا خمسة أشخاص غيري، وأنا كنت غير مصدق في البداية، وكنت أظن أنني أتخيل ما أقول، حتى حكى الحكاية، لبعضهم، بقية الستة…” (ص 15).
جاءت “مقام عطية” للمبدعة بكر في قالب صحفي بسيط والذي لا يخلو في كثير من الأحيان من عنصر التشويق كونه يعالج قضية اجتماعية تدور
في إطار التحقيقات الصحفية التي نجحت الأفلام السينمائية والمسلسلات الدرامية في تقديمها عموما.
لقد غلب على تلك الشهادات التي استعانت بها الصحفية “عزة يوسف” لكشف حقائق المقام الكثير من الجوانب النفسية والإنسانية، كما حدث مع الفتاة التي التقتها “عطية هانم” في الشارع وأوتها في منزلها خوفا من الانحراف كما ذكرت ذلك ابنة المرحومة: “…وقد ظلت الفتاة معنا، تعاملها أمي كما تعاملنا تماما، وترتدي ملابسنا، كما كانت تأخذ مصروفا، وتساعد أمي في الأعمال المنزلية، بينما نقوم نحن بتعليمها القراءة والكتابة في الوقت الذي كنا نعاني فيه من ضائقة مالية حقيقية، بسبب أننا كنا آنذاك ما زلنا نتعلم، وبعد شهرين جمعت هذه الفتاة جميع ملابسنا وأشيائنا، بما في ذلك الملابس المنشورة على الحبال، وهربت…” (ص 13).
ما يؤكد كرامات “الست عطية” هو شهادة “الجارة” التي تقول في حقها أنها المروءة والإنسانية والرحمة، وقد وثقت ذلك بعدة أمثلة أولها ما حدث مع ابنتها الرضيعة “كوثر” حيث نقرأ ما يلي: “…إذ بباب البيت يدق فجأة، فشعرت بالخوف، ولم أرد، لكن ربنا ألهمني بعد قليل، فقمت وسألت عن الطارق في هذه الساعة الغريبة من الليل، فجاءني صوتها هي، عطية هانم، وكانت تستفسر عن سبب بكاء البنت، ففتحت لها وأدخلتها، وأنا أطلب من الله مسامحتي، لأني عصيت أمر زوجي، ولما عرفت رحمها الله، أن حليبي شح، وأن الكمون والينسون لم يشبعا الرضيعة، أخذتها مني وأرضعتها…” (ص 11). أما المثالي الثاني فيتعلق بعلاقتها بجارها اليهودي حيث تواصل الجارة في شهادتها قائلة: “وفي أيام حرب بور سعيد، وقفت عطية بجانب سرور اليهودي والذي يقع بيته في آخر الحي، وكان الشابان وقتها، ينوون قتله، وإشعال النار في دكان العطارة الذي يملكه، وقالت لهم: إن سرورا لم يفعل شيئا، وما تفعلونه
حرام. ولولا ذلك لكان سرور وأهله قد أصبحوا الآن في خبر كان…” (ص 11).
المثال الثالث يلفت انتباه القارئ وهو أمر أسمته الجارة بحادثة الرغيف كما جاء على لسانها فيما يلي: “…فلما كان يتصادف أن تأتي إلي وتساعدني في الخبيز، كان العجين يرمي من يدها كثيرا، وكلما كانت تمد يديها للماجور لتقرص لي العجين أقراصا، أقوم بفردها على المطرحة وأطوحها في الفرن، كان العجين لا ينتهي حتى أني أمل وأزهق من قعدتي عند بيت النار…” (ص 11).
لم يفت الكاتبة أن تربط حادثة المقام بمسألة الآثار التي تعتبر من القضايا في مصر منذ القدم، حيث استعانت الصحفية “عزة” بشهادة زوجها الأثري “علي فهيم” الذي اعتبر بدوره أن مكان مقام “الست عطية” يعتبر من أهم المناطق الأثرية في المحروسة، وربما هذا هو السبب المباشر لنبش قبرها في نظره: “…فمن المعروف أن منطقة المقام، هي من أغنى المناطق الأثرية في البلاد، والأثريون والمؤرخون يدركون تماما، مدى أهمية ومكانة هذه المنطقة من الناحية الأثرية، كما يعرفون سلفا، أهمية النتائج التي يمكن أن تتمخض عنها الحفائر هنا…” (ص 16).
ما يمكن استخلاصه في الأخير هو أن الأديبة سلوى بكر تملك قدرة إبداعية مذهلة في سردها الروائي، وهذا يرجع إجمالا لامتلاكها لرؤية فنية مدهشة انعكست على العديد من أعمالها الأدبية كروايتها الشهيرة “البشموري” و رواية “كوكو سودان كباشي” وآخر أعمالها الروائية “شوق المستهام”.