نكمل قراءتنا فيما جاء في الخطاب الفاطمي الحادي عشر للمرجع اليعقوبي فبعد أن تحدثنا في الحلقة السابقة عن ” كرامة الإنسان كأصل للقوانين والتشريعات” نتحدث في هذه الحلقة عن ” الكرامة الحقيقية بين الإعلان الإلهي ومحاولات السلب”، فنقول:نص ما جاء في الخطاب الفاطمي عن الموضوع:”هذا التكريم الذي أعلنه الله تعالى لكل الخلائق في الحفل الذي أقيم عند بدء الخلقة الإنسانية للتعريف بخليفة الله تعالى في الأرض حيث أمر الله تعالى ملائكته بالسجود لآدم، قد حسد إبليسُ الإنسان على هذا التكريم الإلهي، قال تعالى حكاية عن إبليس: قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً (الإسراء: 62) أراد اللعين سلب تلك الكرامة منهم بصدهم عن سبيل الحق، فالكرامة الحقيقية هي الوعي بالحق وهو الطريق الذي يسلك به الإنسان إلى الله تعالى”. انتهىتكلمنا في الحلقة السابقة عن كرامة الإنسان وشيء عن معناها وكونها أصل للقوانين والتشريعات، وقلنا في تلك الحلقة إن الكرامة في اللغة الإنكليزية مشتقة من جذر لاتيني تعني ترجمته الحرفية “الجدارة” وإن تعريف لشوبنهاور للكرامة هو “رأي الآخرين حول قيمتنا”، وبهذا المفهوم عن الكرامة أو قريب منه أخذت الكرامة مساحتها في الفلسفة الغربية والقوانين والتشريعات منطلقة في الغالب في الجانب القانوني والتعريف من مؤشرات سلب تلك الكرامة كالإذلال أو العبودية أو غيره، فهل هذه هي الكرامة الحقيقية؟قلنا إن كرامة الإنسان دينياً تعني باختصار التفضيل والاستخلاف، وقد أُعلن عن كرامة الإنسان في ” الحفل الذي أقيم عند بدء الخلقة الإنسانية” على حد تعبير الشيخ اليعقوبي، وكان مظهره الأول طلب سجود الملائكة لهذا المخلوق المكرم والذي جوبه بالمحاولة الأولى لسلب تلك الكرامة من قبل إبليس وإعلانه عن منهجه في ذلك ( قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً)(الإسراء: 62)”!ومن دلالة هذه الآية وآيات أخرى تحدثت عن الموضوع أو قريب منه كقوله تعالى : (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ)(الأعراف:16-17) ، وقوله تعالى: ( قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)(الحجر:39-40).يمكن أن نفهم معنى الكرامة الحقيقية للإنسان، ويمكننا أن نرى من الآيات الكريمة الإشارات التالية:1-يصر إبليس على نسبة الغواية لله تعالى! (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي)، (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي).2-الدافع لتحرك إبليس هو الحسد وإثبات صحة وجهة نظره بأنه أحق بالتكريم من الإنسان (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ).3-هدف تحركه هو الإغواء والسيطرة وسلب آثار التكريم، إذ وردت مفردة الإغواء بوضوح في النصوص القرآنية السابقة، كم وردت مفردة (لأَحْتَنِكَنَّ) وهي وفقاً لأشهر معانيها اللغوية تدل على السلب أو السيطرة.4-إن محاولات إبليس كثيرة ومستمرة ومتنوعة، (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ)، (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ)، (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ).5-محاولات إبليس ستنجح-وفقاً له- في إغواء الأغلبية إلا من استثني(إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)، (إَلاَّ قَلِيلاً) وهؤلاء هم صورة الكرامة الحقيقية للإنسان بأفضل تجلياتها.6-من علامات فقدان الكرامة الحقيقية ومطاوعة إبليس عدم الشكر (وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ).هل يعني ذلك إن محاولات صون كرامة الإنسان عبر التشريعات والقوانين غير مطلوبة وإن صور الاستغلال والعبودية والإذلال لا تمس كرامة الإنسان بشيء؟!طبعاً لا فهذه المظاهر هي من مظاهر سلب الكرامة بلا شك، وإن أي جهد للقضاء على تلك المظاهر هو جهد مطلوب، ولكن على الإنسان أن يلتفت بنفس المستوى-بل أكثر- إلى محاولات سلب كرامته الحقيقية فالعبودية لإنسان آخر سلب للكرامة وكذلك العبودية لغير الله وللشهوات هي سلب للكرامة أيضاً بل محق لها، والاستغلال للبشر هو سلب للكرامة أياً كان هذا المستغِل-بكسر الغين- حتى لو كان الإنسان نفسه ورغباته، والإذلال سلب للكرامة حتى لو إذلال المرء لنفسه عبر طاعة الرغبات والشهوات على حساب آخرته والآخرين.وقد تتقمص بعض دعوات سلب الكرامة ثوب كسبها توهماً أو عن قصد! كما في دعوات تحرير المرأة بقصد استغلالها، وكما في دعوات حقوق العمال بقصد زيادة الانتاج، وكما في دعوات تحرير الشعوب من العبودية بقصد تغيير السيد فقط!وهي بنات أفكار إبليس ولكن بلغة ومنهج العصر!فينبغي أن نفهم معنى الكرامة الحقيقية للإنسان، وهي كما عبر سماحة الشيخ “هي الوعي بالحق وهو الطريق الذي يسلك به الإنسان إلى الله تعالى”، إذ ما عداها وهم كرامة، وننتبه لمحاولات سلبها الشيطانية والتي قد تلبس ثوب صون الكرامة نفسه، لنكون بذلك قد سلكنا الطريق الصحيح لصون الكرامة الإنسانية.