المحاصصة بمفهوم توزيع السلطات وتقاسم الثروات بين مكونات المجتمع، وفق نسب الثقل الإثني والعقائدي ليست بدعة، وإنما تعتبر من أنسب أساليب الحكم التي تضمن العيش المشترك لبلد مثل العراق، متعدد الأعراق والأديان والطوائف، انزلق الى استقطاب حاد واصطفاف حذر ومريب بعد حربين طاحنتين : خارجية مدمرة وداخليه فتّاكة، أعقبتا عقوداً من الإستبداد واللامساواة وغياب العدالة.المحاصصة الديمقراطية مبنيّة على التوافق والشراكة وليست مؤامرة ولا ظاهرة مُحْدَثة أوجدتها تركيبة المجتمع العراقي وتعقيدات العملية السياسية، وليست لقيطا غريباً ولدته توابع الإحتلال ومواجع الهيمنة الأجنبية بعد ٢٠٠٣، كما يظن هذا الطرف أو ذاك.نظام المحاصصة، في الدولة المتعددة الأعراق والطوائف والثقافات ، والتي يتحتم فيها تقاسم السلطة والثروة لتفادي الصدام والإقتتال من مظاهر المجتمعات البشرية التي تمتاز بالتنوع والتعدد وتعتلج فيها بواعث الهوية القومية أو الدينية، منذ نشوء وتبلور المفهوم السياسي للدولة الحديثة في أواسط القرن السابع عشر في أوربا.من أمثلة الدول متعددة الأعراق تاريخيا لا على سبيل الحصر، المملكة المتحدة التي يتقاسمها البريطانيون الأسكتلنديون والآيرلنديون ، ومن أمثلة الدول متعددة الأعراق الحديثة كندا التي يتشاطرها الإنكليز والفرنسيون وماليزيا التي يتشاركها سكان البلد الأصليين والملاويون والصينيون والهنود، وقد استطاعت هذه الدول في وقت مبكر، وبمحض إرادتها، أن تقيم أنظمة سياسية مبنية على الشراكة ومدعومة بتقاسم السلطة والإدارة اللامركزية، أبقتها موحدة.أكثر من ذلك، نلاحظ فشل مساعي القوميين في الحصول على دعم شعبي للإستقلال في كندا وبريطانيا، وفشلت استفتاءات الإنفصال عندما صوت الناس ضده وفضلوا الإستمرار في التعايش مع أقرانهم المواطنين الذي ينحدرون من أعراق آخرى أو ينتسبون الى نسيج طائفي مختلف، لما توفره أنظمة التوافق الديمقراطي من ضمان لحرياتهم وصون لحقوقهم ورفاهية لمعيشتهم، بينما تهاوت معظم الدول متعددة الأعراق التي أقامت ولعقود طويلة أنظمة حكم شمولية ذات مركزية صارمة تجبر الناس على التعايش، غير المرغوب فيه في دولة موحّدة مفروضة بالقوة، بحجة الحفاظ على الهوية الوطنية وضمان السلم الأهلي ، تهاوت وتفتت الى دول قومية ، أو أنها في مخاض عسير ينتظر ولادة الدولة القومية أو بناء نظام سياسي محكم قائم على الشراكة وتقاسم السلطة وضمان حقوق مختلف الأطراف وهوياتها الثقافية ، ولمن يرغب في المزيد حول هذا النقطة النظر الى يوغسلافيا السابقة والسودان (الجنوبيون صوّتوا لصالح الإنفصال بنسبة قاربت المئة بالمئة) والإتحاد السوفيتي السابق وخلفه والروسي.في الواقع، لا يرى العديد من المختصين إنسجاما كافيا بين الديمقراطية والمجتمع المنقسم عرقيا أو طائفيا، بمعنى أن الديمقراطية والمجتمع المنقسم على نفسه تقريبا على طرفي نقيض من عدة أوجه، أو على الأقل، لا يلتقيان كثيرا على الوجه الأمثل وإن كانت اللقاء ممكناً عندما تتعاون النخبة السياسية وتتفاهم فيما بينها حتى وإن ظلّت القواعد الجماهيرية منقسمة وهو عكس ما يحدث لدينا ، ويشترط لمثل هذا اللقاء المنتج أن تدخل النخب السياسية في تحالف حكومي تتمثل فيه كافة المجاميع الإثنية وتُبنى مؤسسات تشريعية وتنفيذية وقضائية بتمثيل نسبي يعكس الحجم الحقيقي لكل مكون ويتم توزيع الثروة ومراكز الدولة المختلفة وفق نفس المعادلة على أن تتمتع المجموعات الإثنية – خصوصا تلك المجموعات التي ترى ان مصالحها في خطر – بحكم ذاتي يضمن هويتها الثقافية ولها حق الإعتراض المتبادل على أية إجراءات أو قرارت تتعارض مع ذلك ، فلا غرابة إذن أن يأتي الدستور العراقي وهو الذي كتب في ظل تنافس محموم وتناحر مذموم، متضمنا كل هذه الأفكار والسياقات والأطر، ومنصوصا عليها في مواد واضحة وصريحة.لقد أصبح تقاسم السلطة مرادفا للديمقراطية في البلدان التي تشبه العراق في تنوعها العرقي والديني، بداية الألفية الثالثة وبعد إنفراط عقد المعسكر الإشتراكي في العقد الأخير من الألفية الثانية، رغم سلبياتها العديدة التي تتمثل في ثلاث وجهات نظر منطقية .الأولى : ديمقراطية تقاسم السلطة والتوافق والتعايش السياسي مشوهة ورديئة لأنها تقلل كثيرا من دور القواعد الجماهيرية . الثانية : أن وضع وتأسيس آليات تقاسم السلطة والثروة تخضع للمساومة على حساب الآليات الديمقراطية عادةً.الثالثة : هناك دلائل متلاحقة على أنها تزيد من حدة الإنقسامات المجتمعية بدلا من كسرها وإزالتها على الأقل في المدى القريب وفق مفهوم أن الحواجز المنيعة تخلق جيرة جيدة وآمنه .بالمقابل فإن ديمقراطية الأغلبية لا تناسب المجتمعات التعددية مطلقا لأنها – اي ديمقراطية الأغلبية – ببساطة تساعد على تصدر الأغلبية العرقية أو الطائفية للمشهد وتتركز القوة في يديها وتمكنها بالتالي من الهيمنة على مقدرات الدولة وتدفع الأقلية الإثنية دفعا لا مناص منه إلى مواقع المعارضة التي غالبا ما تميل الى الحدة والتطرف في مواقفها بسبب الشك الذي يسيطر عادة على توجهاتها إزاء دولة الأغلبية التي وقعت تحت سيطرة الإثنية المنافسة ، وربما تلجأ في النهاية الى العنف وترى فيه السبيل الوحيد لإستحصال حقوقها، وهو كما أرى واحد من أقوى أسباب تفشي العنف والتطرف الطائفي في المجتمع العراقي.يبقى الإعتراف أن ديمقراطية التوافق وتقاسم السلطة وإن كانت مناسبة في الدول المتعددة الأعراق والطوائف ، خصوصا تلك التي عانت من الحروب الخارجية والداخلية كما هو الحال في العراق، لكن هذا الإعتبار يكتسب المصداقية فقط عندما يتم إعتمادها واللجوء إليها بشروط وكتوطئة ومدخل إلى السلم الأهلي والنظام الديقراطي الحقيقي واستقرار البلد ولكنها ليست العلاج الناجع والترياق الأمين الطويل الأمد ، حيث نرى ظهور الدعوات القومية حتى في الأمثلة المستقرة والناجحة التي مر ذكرها، ويمكن للمنصف أن يجد ذريعة معتبرة للمطالبين بإلغائها ومغادرتها إذا صدقت النوايا وحسنت المقاصد وأعد لقيام نظام عادل فيدرالي حقيقي، لا مركزي ، يجد فيه كل طرف لونه واسمه، خالٍ من النزعات الطائفية المقيتة والميول القومية العنصرية البغيضة وتمت مراعاة معطيات الواقع العراقي في ذلك واعتمدت متطلبات نوعية تمنع النزوع الى الهيمنة والتفرد وتضمن بناء ديمقراطية حقيقية، وهو ما تفتقر إليه سياسات الحكومات العراقية المتعاقبة بعد ٢٠٠٣، بل على العكس مارست تلك الحكومات واقترفت كل ما شأنه أن يثبت مخاوف النزوع الى التفرد وإلغاء الآخر وفشلت تماما، ولا زالت، في مد جسور الثقة وبناء أسس المصداقية مع شركاء الوطن. المحاصصة اذن وفي الوقت الحاضر والمستقبل القريب على الأقل لا مناص منها في العراق ولا مهرب[email protected]