بعض المجتمعات أوصلت نفسها إلى أن تكون عصيرا لذيذا يملأ أنخاب المحتفين بإمتلاكها ومصادرة حقوقها وثرواتها وبلدانها , فما عادت تقرر مصيرها , وإنما هي جاهزة للعصر في معصرة الويلات والتداعيات , اللازمة لصناعة خمر السعادة ونبيذ البهجة لمجتمعات أخرى , تتلذذ بطعم شرابها المعتق في أوعية البهتان والضلال , والفتك بالذات والموضوع والإنسان.
مجتمعات أوجدت من بينها مَن يتعهدون مصالح الآخرين , ويستلمون وكالات مطلقة للجلوس على كراسي المآسي والويلات , والتفاعلات المدمرة لما يشير إلى ملامحها وهويتها , وقدرتها على البقاء والتفاعل مع الحياة.
وما أكثر هذه المجتمعات , وخصوصا في منطقة الشرق الأوسط , التي تحوّلت معظم بلدانها إلى فرائس منبطحة منطوحة , أو مبشومة أو مذبوحة أو مقتولة أو مقبوض على أعناقها , ومن حولها ضواري الغاب المعاصرة وطيورهُ الجارحة , وذئابه وعظاياه وتماسيحه وكل وحش في فمه أنياب , ويحب أكل اللحم والعيش على فضلات المفترسين.
بلدان كالفرائس المحوّطة بالوحوش السابغة الفاغرة الأفواه المكشرة الأنياب , المتكالبة على قصعة وجودها وطراوة لحمها ولذيذ ما فيها من كنوز القوة والغذاء.
هذه البلدان لم تأتِ الوحوش إليها كما شاءت , وإنما تمكنت بغبائها من إستحضارها , وتأسيدها عليها , فصارت كل ساعيةٍ لأكلٍ تداهمها وتنال منها , لأنها تفرّقت وتمزقت وتعادت , وقدمت نفسها طعاما يسيرا سهلا ووفيرا , يغني الجائعين عن عناء البحث عن الطعام , ويوفر لهم الطاقات ويمنع عنهم الخسائر ويزيدهم قوة ونماء , فجاءت الويلات من كل حدب وصوب , حتى صار الوجود محض إفتراس وصراخ وأنين , والناس في ويلاتها تستعين ببعضها على بعض , وبمفترسيها على بعضها , حتى طفح الكيل , وصار الهرب من البلد أمنية كل موجود فيه.
وما يجري في الواقع العربي المعاصر , تعبير واضح على الإنعصار المروّع والتحول الفتاك إلى شرابات تُحتسى على موائد المحق والفناء الحضاري المطلوب لجني ثمار ما هو مخطط ومكتوب.
إن عصر الأمم والشعوب يعني تجفيفها وتحويلها إلى هياكل بلا حياة وروح , وما يجري في مجتمعاتنا , ما هو إلا سلوك متواصل لتجفيف الموجود العربي من رحيق الحياة , ونسغ التواصل والإنتماء لأصله وذاته وموضوعه , وإصابته بالجفاف القاتل الذي يستدعي حقنه بسوائل ذات مواد تؤثر على وعيه , وتصنّع تفكيره وفقا لإرادة الصيرورة المطلوبة , التي تتلخص بتحويل البشر إلى ضحية تتلذذ بمصيرها المحتوم , وتأتي إلى محطات الجزر بطواعية وإندفاعية فائقة.
فما أطيب العصير العربي المعتق في كهوف الغابرات , وما أسعد شاربيه!!