نعود ” لهور الميجر ” كان مائه في شهر شباط يتجمد ليلاً لضحالتهِ فَتُعلق ارجل طيور الماء وخاصة ” دجاج الماء ” طير لونه اسود منقاره ابيض غطّاس لا يُهلَس ريشه بل يُصلَخ , لحمه غير طري يسمى بلغتهم الدارجة ” هليچي ” يأتي الصبيان ويخوضون في الماء لأمساكها … كان اهل القرية يشترون مستلزماتهم مثل الشاي والسكر والسكائر وحاجاتهم الأخرى يشترونها بالآجل من صاحب محل البيع ” الدكان ” أسمه سعييد ؛ لحين جني محصول التمر وبيعهُ , عند شرائهم لشيء يقولون له ” سَجلَه عَل كِصاص ” يعني على موعد قص عذوق التمر وبيعهِ . وهذا التعامل يكون مع صاحب المقهى لأغلب سكان القرية. يتردد على القرية رجل يسمى ” ألِمچاري ” يمتطي حمار كبير وعالي يبيع الحاجات البسيطة مثل أبر وبكرات الخياطة والاشرطة والخيوط المطاطية وبعض الحاجات واللوازم النسائية يقاضيها بالبيض او الدجاج وأحياناً النقود, المتداول في ذلك الزمن الفلس و” عانة ” تساوي اربعة فلوس و” قران ” عشرون فلساً وغيرها, ويرتاد القرية ايضاً عمال تنظيف القدور والأواني النحاسية الشائعة في ذلك الزمن يسمونهم ” الصفافير ” . في القرية قصاب يبيع اللحم يومي الأثنين والجمعة من كل اسبوع يقطّع اللحم ويضعه في حاوية تشبه الصينية مصنوعة من الخوص يسمونها ” الطُبَك ” ويدور بها على بيوت القرية لغرض بيعهم اللحم , ميزانه عبارة عن” زنبيلين ” مصنوعة من الخوص مربوطين بغصن شجرة في وسطها حبل والعيار عبارة عن حصى مختلف الحجم يسمون الاوزان بالكيلو واجزائه الاقل الربع والنصف والاكثر” بالحكة والچارك ” كان يكنّى هذا القصاب ” حميد ابو الحقّه ” في القرية مراقد لرجال دين معروفين لهم منزلة معتبرة وتقدير من قبل اهل القرية مثل مرقد السيد “عِبدان الگيلاني ” له كرامات يزار من قبل الأهالي ايام الخميس والجمعة وايام الاعياد والمرضى المصابين بألتهاب العصب السابع ” الشرجي ” الذي من اعراضه أعوجاج الفم ويعتبرونه جد القرية تحيط به بعض القبور, ومرقد الشيخ ” سعد ” يزار ايام الاعياد والايام العادية ومرقد السيد” حاجم ” تحيط به مقبرة القرية , تنتشر في القرية الطيور المهاجرة مثل الزاغ والزرازير في الشتاء وطيور اللقالق وعصافير السنونو في الصيف أهل القرية الكبار والصغار يحترمون هذه الطيور ولا يعرّضونها للأذى كونها بأعتقادهم تأتي من مكة المكرمة يسمون اللقلق بالحجي يبني عشه فوق النخيل المقطوع الرأس والأماكن المرتفعة والسنونو تبني أعشاشها داخل المنازل في الغرف آمنة مطمئنة لا احد يأذيها لأنها زارت بيت الله هذه الطيور لم يعد لها وجود لا في القرية ولا غيرها من مناطق العراق الا ما ندر بسبب الظروف الحربية . شخص من اهل القرية أسمهُ ” زكَيحي ” يلقّب بـ ” زكَيحي ابو العرك ” يصنع العرق في بستانهِ الخاص وعلاقته بأهل القرية يشوبها نوع من التوتر وعدم الانسجام كانت الشرطة بأستمرار تداهم بستانه وتسكب ما موجد في الخزانات من الماء والتمر المخمّر وتستولي على مشعل النار ” البريمز ” وأجهزة التقطير بعدها غادر القرية وسكن بغداد من عادات اهل القرية المتمسكين بها عدم بيع اللبن او الحليب او بيض الدجاج او النارنج , يعيبون على من يفعل ذلك في مرة حاول احد سكان القرية بيع اللبن في الخفاء في مركز المحافظة رآهُ احد سكان القرية ونشر الخبر ومن يومها قبل سبعون سنة الى اليوم تلقّب عائلته بـ ” بيت ابو اللبن ” كان الفائض من الحليب واللبن يوزع على بيوت القرية يعرفون حال بعضهم مثلاً بيت فلان بقرتهم لم تلد ” هايشتهم حالت ” وبيت علان ماتت بقرتهم وفلان لايستطيع شرائها وهكذا كانت الامور تدار في القرية وكانت مشهورة بالبلابل أعشاشها منتشرة بين اشجار الحمضيات في صراع دائم مع الصبيان . هناك شجرة الزيتون الوحيدة في القرية مزروعة على الطريق العام المحاذي للنهر امام بيت حميد الحميدي عليها قصة يخيفون بها الاطفال كي لا يبتعدوا عن مساكنهم بأن هناك دجاجة من ذهب لديها مجموعة فراخ تخرج ليلاً من تحت الزيتونه يحميها جنّي يأذي من يقترب منها أحياناً كانت بعض النسوة تعتقد بصحة الرواية . و من عوائل القرية البارزين بيت محمود العبدالله ومنهم أحمد ابو كريّم وقاسم ابو قدوري ومدحت ابو حاتم و محمد امين ابو جاسم رحمهم الله ولكل واحد من هؤلاء له شأن مميز في القرية أحمد ابو كريّم معروف ومشهور كصياد ماهر ومزارع مثابر عفيف النفس حتى مع اشقائه يساعد من يحتاج حسب قدراته وقاسم ابو قدوري خريج مدرسة الصنائع العسكرية معروف بمساعدته للجميع في مجال اختصاصه مجاناً وبدون مقابل في العيد يمنح من يصادفه من اطفال القرية يمنحهم النقود ” العيدية ” كان يسكن بغداد ويملك دار فيها لمتطلبات عمله لكنه متواصل مع اهله واهل قريته يملك عدد من البساتين الصغيرة أصدقائه المميزين مسيحين من اهالي بغداد يدعوهم بأستمرار لزيارة القرية وبساتينها ويقوم لهم بواجب الضيافة على احسن مايكون من اصدقائه المسيحين المعروفين لسكان القرية ” توماس وعائلته وأمه ” عند وفاة تواس ضلت أمه وأخته ” ماريا ” يترددون على أهل قاسم ومن اصدقائه الفقراء والعميان والمساكين يساعدهم ويكرمهم , أحيانا يتندر شقيقه مدحت ابو حاتم على هذا الحال , سلوكه في بغداد نفسه في القرية يتمتع بثقافة جيدة حسه الوطني عالي رزقه الله عشرة ابناء وخمس بنات سمى البكر الأولى ” تل أبيب ” وأصغر البنات سماها ” نابلس ” معظم ابنائه وصلوا الى مراكز مرموقة في الدولة مهندسين وظباط برتب عالية ومدراء وموظفين ومدرسين مرموقين ومنهم من يعمل بالتجارة بنات وبنين , أما مدحت معروف بشكل واسع يلقبونه بـ ” زلمة ليل ” في بداية أمره مارس بيع وشراء بنادق الصيد التي كانت تعتبر سلاح شخصي رئيسي لأهل القرية حتى لقّبهم الناس بـ ” بيت أبو تُفَك ” بعدها مارس بيع وشراء الابقار وهو اول من ادخل التلفزيون الى القرية في مقهاه التي كان يديرها يُشغّلهُ بواسطة كهرباء مضخة ماء , يعتبر من النخب الاجتماعية المتميزة والمرموقة في قريته والقرى المجاورة الأخرى وله علاقات واسعة مع التجار الأكراد وصداقات متميزة معهم , محمد امين ابو جاسم شقيقهم الاصغر كان مزارع من الدرجة الاولى يمتلك عدد من البساتين منتوجها من التمر والحمضيات يعتبر الأفضل يعرف انواع النخيل من سعفها والحمضيات من رائحة اوراقها ويعتبر مرجع زراعي مهم لأهل القرية جادٌ في عمله ودؤوب حتى أن الحاجّة أمه ” هدية أم أحمد ” لها قول مشهور في القرية تُذكَر فيه ” يلراكب على الكر يم محمد أمين لا تمر ترا لو يشغلك لو يشغّل الكر ” كان كريماً يجود بما يستطيعه لمساعدة المحتاجين وعلاقته بإمام المسجد ” صبحي الهيتي ” قوية جداً يحرص على صداقته عند صيده لأي شيء يبعث بحصة صبحي الهيتي , خدمة المسجد جزء من واجباته يقوم بأدامة المصابيح والتنظيف مع عدد من المصلّين . في مرة عمت القرية موجة كثيفة من الجراد الصحراوي فأمر ابن أخيه قدّوري وبعض الصبيان لجمع الجراد في أكياس وإيصاله لبيت إمام المسجد كونه من اهل هيت ويأكلون الجراد , أهل القرية لا يأكلونه . ومن العوائل ألأخرى بيت عمهم عبد الجابر وبيت محمد أفندي معلم المدرسة و بيت صبري معلّم ايظاً وبيت حسن علي العمر وبيت محمد خطاب ابو رعد وبيت عبد الوهيّب ابو احمد وبيت هاشم سعيّد وبيت حميد الحميدي وبيت حاجم وبيت الميجَر وغيرهم من العوائل الخيّرة .عند شبابنا وتطور مداركنا عرفنا معنى كلمة ” الميجَر ” تدل على رتبة عسكرية عالية للجيش البريطاني أثارت فضولي سألتُ والدي رحمه الله هل صحيح اسمه الحقيقي ” ميجَر ” ابتسم وقال لا اسمه ” قْياس ” بتسكين القاف فقلت هل كان ضابط في الحيش الانكليزي ويلقبونه على هذا الاساس ضحك وقال كان للميجَر مقهاه المعروفة حالياً يتردد عليها ضابط في الجيش الانكليزي يستخدم دراجة بخارية مربوط بها حاوية جانبية ” ماطور سكل ابو الدوبه ” يصطحب قياس معه للصيد وللدلالة على أماكنها يصطادون الطيور البرية والارانب كان ذلك في نهاية الثلاثينيات وهذا الضابط هو من اطلق لقب الميجَر على قياس فعند دخول هذا الضابط للمقهى يناديه من بعيد ” هلو ميجَر ” ويصافحه بشدة وأن لم يجده يخاطب الحاضرين مستفسراً عن الميجَربلغة عربية متعثرة ” آين ميجَر ” فيعرفون ما يقصد فيبعثون أليه لأحضاره , ومنذ ذلك الحين لقبهُ اهل القرية بالميجَر وهذا طغى على اسمه الحقيقي . كنا صبياناً نمازحه عند اللعب قرب مقهاه نردد بصوت عالي ” علميمر وعل ميمر خاف انفشخ وبلاك عمي الميجَر ” فيضحك جالسي المقهى على ما نقول . حدث له موقف متميز عندما كان متواجداً في بعقوبة مركز المحافظة عند عودته للقرية سائراً على قدميه شاهده صاحب سيارة