الشخصية الرمز هي التي شكّلت ملامح الوجه القيادي في الواقع العراقي ، سياسياً ودينياً وثقافياً ، بل حتى على المستوى الاقتصادي كانت هناك رمزية ال بنيّة في فترة ما ، كدلالة على تشكّلية اقتصادية تقوم على رمزية الفرد والاسرة . كانت تتناثر الصور والأسماء كتناثر قطر الماء في الصحراء ، فتشعر لرؤيتها القلوب المتصحرة بشيء من الانتعاش الوجودي والامل .رمزية الحزب كانت مثالاً طريفاً يعكس ثقافة التَّشكُّل الفنتازي للوعي العراقي ، اذ بدل ان يصير الحزب آلية في وجه رمز يعيش الفردية بنرجسية عروبية صار هو ذاته رمزاً مقدساً تصعب تلبية حاجاته ورغباته التي تتكثف على شكل رؤية أمرية.اليوم ، في عراق الفسيفساء ، لم يعد للرمز من وجود حقيقي ، حيث انكسرت آنية الوعي الاخيرة التي سمحت للبعض بالتحدث والاستعراض ، وانسحقت رمزية الجماعة تحت وطأة نهوض من نوع اخر ، انه الانطلاق العجائبي للصنم ، اذ نعيش في عهد الثورة الصناعية الصنمية.
المجلس الأعلى .. صنمية ابناء انليللم يكن صدر الدين القبانچي ليتصور انّ تأثير الحركة الفلكية للشيطان الاكبر على المدار الحكيمي للمجلس الأعلى سيعمل على دفع الأقمار الغريبة خارج المدار ، ولم يكن جلال الدين الصغير يعي انّ الكعك الفاخر للسيد عمار الحكيم بعد نفخه بالامونيا الامريكية صار اكبر من فلسفة النستلة . انّ انهيار منظومة قادة الأيدولوجيا الثورية في المجلس الأعلى من جرّاء النخر العائلي فتح الباب واسعاً لنهوض صنم اسمه عمَّار الحكيم.ضوضاء الشورى والقيم الثورية التي تفرض تراتبية القيادات اعتماداً على المستوى الرؤيوي والعقل الواعي لضرورات الاسلام انطحنت لثقل كتلة الصنم المالية ، لكنها – بعد الاستسلام – اقتبست عنه رؤيته الاسلامية المرتكزة الى خمسين الفاً في اليد للمؤمنين او المؤمنات الذين يحضرون طقساً صنمياً ، بعد اعلان ممول يشير الى المكان ، كالقول انّ قراءة المقتل تتم بصوت الحكيم او القبانچي . لقد ادركت هذه العمائم العجوز انّ لوازم القيادة تقتضي ان يكون القائد ابن ماء السماء.
التيار الصدري .. الانتقال الجاهل من الرمز الى الصنمعمل الشيخ قيس الخزعلي والسيد محمد الطباطبائي على صناعة رمز يسدّ فجوة رحيل الرمز الصدري الشهيد ، ليواجهوا عدد من الجبهات المفتوحة ، فمن جهة كان هناك رمز يبادلهم العداء اسمه السيستاني ، او لنقل انه مكتب السيستاني عملياً ، كما كانت هناك رموز صدرية صاعدة تملك الأسس العلمية والعملية الاقوى ولا يسمح وجودها بظهور فضاء مناسب لطيران هذين الرجلين . لكنهما – برعونة الشاب – كانا قد صنعا صنماً آخراً على ارض الواقع ، الامر الذي جعلهما يئنان من ثقل هذا التَّشكُّل الجديد . كذلك كان الشيخ أكرم الكعبي يعاني بؤس هذا الوضع الحجري . فخرج الجميع – بعد الهام الجماهير قدسية هذا الصنم – هرباً نحو فضاء التكوّن ، لكنهم ادركوا انهم لم يعودوا في عالم الرمزية بل عالم الآلهة ، فانجذبوا تلقائياً نحو معامل الاصنمة.انّ هذه الاصنام الصغيرة لم تكن لتستطيع الانتشار – طقسياً – دون الارتهان لحاكمية بعض الآلهة الكبيرة ، او اعادة التَّشكُّل الميثولوجي بنحو الصنم الهجين والمركّب من عدة آلهة.ادرك آلهة الحرب انّ جمهوراً عالماً مدركاً سيكون بطيء الحركة ، ولا يستطيع حينها مجاراة الحروب الكونية التي تعبّر عن وجود تلك الآلهة ، لذا اختاروا ان يكون جمهورهم شاباً مفعماً بالحماس الثوري ، وبالفقر المدقع ، دون ان يَمَسُّه ريب المعرفة ، او كما عبّر السيد مقتدى الصدر : جهلة جهلة جهلة . بخلاف كل هؤلاء اختار رمز اخر من رموز التيار الصدري ان يكون كاهناً في المعبد يقسم انّ للآلهة صوتا.
المراجع الأربعة .. الاختزال والاستلابالانتفاخ المفاجئ يكون عادة كبيراً وسريعاً ، لكنه يكون أيضاً خطراً ، اذ قد يتسبب بانفجار يختزل هذا الحجم المنتفخ الى الحجم الواقعي قبل الاختزال ، مع ترك اثار جانبية ، ربما تكون مميتة او تتسبب بالتشوه . هكذا انتفخ بانثيون الآلهة الكبار ، القائم على خليط مطاط لوجود الايات علي السيستاني وبشير الباكستاني ومحمد إسحاق الفياض الافغاني ومحمد سعيد الحكيم . ليتم – وبصورة مفاجئة – اختزال مادة هذا الجسم المطاط تحت عنوان واحد ، لمادة مفردة ، حملت اسم السيستاني وحسب.والاسم الاخير كان من الطبيعي – في ظل عصر الاصنمة – ان يوجد كاهناً اكبراً هو ولده محمد رضا ، الذي قرر ان تدور عوالم الوجود الصنمي في فلك والده ، ليتشكل بانثيون الوهم الاكبر ، الذي باستطاعته الإبقاء على تجمد العقل العراقي تحت خط الفقر والجهل ، لحماية المذهب من خطر البدع المعرفية ، وسيئات السياسة التي ظلمت علي بن ابي طالب ، وهو بذلك يحمي المنظومة المجتمعية من ظاهرة الوعي.
العلمانية .. مبكى الملهى ومبغى الطقوس الغامضةاذا كان أياد علاوي قد صار صنماً في يوم ما ، اثر رؤية أمريكية متفائلة ، فهو قد اختصر بعبارته الشهيرة ( والله ما ادري ) واقع حال العقل العلماني الجمعي في العراق ، الذي انتصب طمعاً في المراكز التي شغلها البعثيون من قبل ، لكنهم برعونة العلمانيين العرب ظنوا انّ أياد علاوي كصدام ، فيما أنهما من طائفتين مختلفتين ، تبغض الأحزاب المدنية والعلمانية العروبية احداهما لأسباب دينية ، في ظل تناقض التشوهات الأيدلوجية العربية . وتحت جنح الظلام الفكري قرر منظرو المدنية انهم بحاجة الى صنم يوازن كفتهم الرؤيوية ، كما يحفظ لهم حقّ اداء الطقوس الانسانوية في ملهى حقوق الانسان ومبغى حماية المرأة.لم يكن باستطاعة العلمانيين ، او وجههم الحداثوي من المدنيين ، الانتباه الى أزيز الاقفال الفكرية التي تحكم منذ عقود حركة سياسة الأبواب المفتوحة التي أرادوا انتهاجها ، من كبار السن والعجزة والعسكريين وأشباه العسكريين وأقلام الاعلام السلطوي والشمولي من الجيل القديم ، ذلك انّ هذه الكتل المتفيقهة صارت وجوداً صنمياً.وحين سعت العلمانية الشابة الى دولة مدنية وجدت نفسها داخل البانثيون الصنمي الكبير ، وفيما كان المتوقع ان تسعى لهدم المعبد ، ظلت تشيع – تحت تأثير ماريغوانا المكاسب – خبر تسامح كبير الآلهة وأبوية لكل خطوط الأيدولوجيا ، رغم انها كان يجب ان تعلم – بعد ان رأت ابراهيم يضع الفأس عليه – انه لا يملك صوتاً ، انه مشروع صمت ، لكنها ارادت ان توهم الناس انها ترتبط بقدس الأقداس . ثمّ حين رغبت بمواقع اكثر تقدماً تبعدها عن ساحة الموت البطيء قررت الارتباط بإله من الهة الحرب ، في تشكّلية هجينة وغير متكافئة انخرطت في مشروع يقوده السيد مقتدى الصدر ، الذي طحن وجودها بثقل كتلته ، لكنها خدشته في ثوريته الاسلاموية.
الأكراد .. صراع الالهة القديمةلا تنطبق القياسات الامريكية للأحزاب المدنية المؤمنة بالديمقراطية بايّ نحو من الأنحاء على المشهد السياسي الكردي ، حيث تتغلب الخصائص العشائرية على الأسس المدنية للانظمة الحزبية ، وتنفرد الزعامات الشخصانية بالسلطة المطلقة داخل هذه الأنظمة ، في فنتازيا الالهة الهوليودية على ارض شمال العراق ، كما يفتقد قائد الحزب ( الديمقراطي ) ورئيس الإقليم الأوحد للشروط الأكاديمية المناسبة ، سوى الشهادة العشائرية بأنه من الأصنام المقدسة الكبيرة والقديمة ، ويؤسس رائد المشروع التنويري الامريكي هناك لفردانية سلطوية تتجاوز الفترة القانونية وبرلمان الامة ، فيما تستلب مافيا السليمانية واربيل ما تضخه البصرة من مال ، ليتم مزجه في خليط غذائي يزيد من تضخم البنية العشائرية البارزانية والطالبانية ، ومع ذلك يعيش الطرفان حلفاء المدرسة النورانية الامريكية.فيما تصرّ قائمة التغيير على توفير إرادة شعبية تكسر ثقافة الأصنَمة ، فوجدت نفسها تتكسر على صخرة الحلف الصنمي الكردي الشيعي السني ، بمباركة غربية ، ومن ثم تكون هذه الحركة في مفترق طرق بين الأصنَمة الذاتية والوعي الثوري.
حزب الدعوة .. المكتب السياسي للأصنامكانت ازاحة السيد كاظم الحائري و ( قرار الحذف ) بداية الأصنَمة الجماعية للمكتب السياسي في الحزب ، وربما لم يكن ابراهيم الجعفري يتوقع انّ سيناريو انقلاب رجالات الأمن القبليين في حزب البعث على القيادات الاشتراكية في إطار العاصفة العفلقية سيتم استنساخه من قبل رفاق الجهاد عن رفاق النضال ، وقد يكون تصوّره عن ثقافته الكونفوشيوسية نرجسياً الى الدرجة التي جعلته يظنّ انّ صكاكة الحزب لا يمتلكون القدرة والوعي الكافي للتخطيط ضده ، لكنّه غفل انّ زمان الأفكار قد اصبح أرشيفاً في الوعي الجماهيري عند ابتداء زمان الرجال.خلق الانهيال والنهم السلطوي ، المدعوم بطبقة كثيفة من الغرور والاستعلاء النخبوي ، مجموعة من الالهة الصغار داخل المكتب السياسي ، كانت تنتظر الفرصة المناسبة لدخول بانثيون الالهة الكبيرة ، فسنحت الفرصة لشخص نوري المالكي ان يكون صنماً كبيراً يحرق ثقافة الرمز داخل الحزب والوطن . عندئذ بدأ التشظي والافتراق يعصف بالمكتب السياسي والدوائر المكتبية الدائرة في فلكه ، لا نتيجة صراع الأفكار ، بل جرّاء تصارع الأشخاص على السلطة والمال.وفي لعبة خطيرة لحذف الالهة المحيطة وتكسير الأصنام الاخرى احرق الدعاة هذا الوطن ، فحذفوا كرامته ، وكسّروا اخر جدران القوة فيه ، ثم أعلنوا انّ صراحة انّ كبير الالهة لابد ان يظلّ منهم ، وهو الامر الذي تكسّر على عند أبواب النجف.
من تعددية الثقافات الى تعددية آلهة الثقافةاذا كانت عبارة ( القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ ) ارادت الاشارة الى اهتمامات العقل العراقي فهي أيضاً ارادت ابعاد القارئ العربي عن ما يكتبه العراقيون ، والذي تعتبره منظومة الرقابة العربية من المحظورات الكبرى ، ثم تم اعتباره كفراً بواحاً لاحقاً . وقد كان الكم الثقافي موازياً للنوع الثقافي ، الامر الذي جعل المنتج المعروض يشكّل دائرة معارف مصغرة . من هنا كان من الضروري ايجاد منظومة ثقافية جديدة تقوم على الاسماء لا الأفكار ، لتتحول بالتدريج الى بانثيون اخر يساعد على اختزال المشهد وتقليل حجم الخطر . ومن هنا لم يعد المشاهد او القارئ العراقي للتلفاز او مواقع النشر او برامج التواصل الاجتماعي يهتم للأفكار المطروحة بل للأسماء التي تستعرض هذه الأفكار ، بمعنى انّ الفكرة التلفازية او المكتوبة لن تحظى بذات الاهتمام لو لم تكن لشخص محدد بعينه.
ليس من السهل إذاً التعويل على حوار الأفكار ، فلم يعد للجماهير قدرة كبيرة على قراءة النصوص او فهم المنهجيات ، فهم يعيشون ثقافة المقدَّس ، وترى كل فئة انّ ايّ انتقاد لصنمها تجاوز لخطوطها الحمراء ، وتعيش استعداداً مؤكداً للانقضاض العنيف على الاخر . فيما تكون هذه الأصنام صاحبة الاستطاعة الحصرية على اعادة أدلجة اذان وعيون جماهيرها ، لذا يمكن للاجتماعات المنعقدة داخل البانثيون فقط الخروج بنتائج مشتركة.او تتحرك كتلة من خارج البانثيون تحمل خصائص الشخصية النبوية لتغيير واقع الجاهلية المعاصرة وإعادة الجماهير الى وعيها الإنساني ، والسعي نحو دولة الانسان ، لا إنسان الدولة ، ومن ثم تكسير مفاهيم الاستعباد والاستغفال والتجهيل والتدجين ، لتتكسر اثر ذلك شخوص هذه الأصنام ، وتنقرض طقوسها الدموية.
[email protected]