في مقال سابق تحت عنوان (من هو المسؤول عما حصل ويحصل في البلد) بعد نيسان 2003 تبين من خلاله ان المسؤولية في ذلك يقع على التحالفات السياسية الثلاث التي ادعت انها تمثل المكونات الاساسية في المجتمع العراقي ولا شك ان هذا كان صحيحا انما ايضا لابد من الاقرار ان هذا كان يشكل جزءا من الصورة وليس كل الصورة ويطرح بعضا من الاسباب وليس كلها, لان هناك اسباب اخرى لا تقل عن هذا ان لم تكن تساويه وربما تفوقه وعلى كل الاحوال فانها اي الاسباب باجتماعها ادت الى ما نحن عليه الان ويمكن تلخيص هذه المؤثرات التي لم تذكر في المقال الانف الذكر بعاملين اساسيين يتفرع منهما الكثير من الاسباب وهذان السببان هما, العامل الخارجي وطبيعة النظام الذي تم تشكيله لتسير عليه عملية ادارة البلد ككل, سواء كانت هذه الادارة متعلقة ببناء الدولة السياسي والاداري ام بالحقوق المدنية ام بالجوانب الاقتصادية والزراعية والمالية وغيرها مما يتعلق بوجود البلد كدولة .
ان عملية تشخيص هذه العوامل الثلاث كأسباب حقيقية لما يجري في البلد من ازمة مستعصية خانقة تثير الفزع من تداعياتها وليس القلق وحسب في غاية الاهمية لتقديم حلولا ناجعة. ومن المهم جدا لتحديد العلاج تحديد ما نراه سببا حقيقيا فيما يحصل وسيبقى العلاج ناقصا ولن يؤدي مفعوله ما لم نتعرف على جميع الاسباب الجوهرية, وتحديد الاسباب خصوصا التفصيلية منها مهمة بالغة الصعوبة وينبغي التعامل معها بحرص ودقة كما يلزم التجرد من الافكار المسبقة لانها ستعطل العلاج بل ربما تئده مبكرا.
ومنعا للاسترسال في مقدمة قد تطول نحاول ذكر هذه الاسباب بشئ من الوضوح وسنركز في مقالنا هذا على السبب الاول ونترك السبب الثاني لمقال آخر عسى ان نوفق اليه .
السبب الاول :هو العامل الخارجي ونعني به التدخل الاقليمي والدولي في مجريات الاحداث وصنع الوقائع في العراق, اذ ان عملية التغيير التي حصلت في نيسان 2003 تمت بارادة خارجية محضة وبتوافقات او اتفاقات دولية واقليمية وهذه التوافقات او الاتفاقات رسمت صورة لمستقبل العراق وربما المنطقة, اذ ان العراق كان المربع الاول او الثاني في عملية تغيير كبيرة تستهدف مناطق مؤثرة على امن العالم بما تشكله من اهمية اقتصادية . وهذا التدخل الخارجي المحض وغياب الارادة الوطنية العراقية في عملية التغيير او تغييبها لضعفها من جهة ولعدم ادراكها حجم تداعيات التغيير استتبع امورا منها ان عرابي التغيير مع رغبتهم الاكيدة والغريزية في هكذا احداث تأريخية بعدم ادخال شركاء جدد, ادركوا ايضا ان الارادة الوطنية العراقية لا تصلح لان تكون لاعبا ولو حتى صغيرا لانها اي هذه الارادة المفترضة لم تظهر اي نوع من الاستقلالية في عملية صنع التغيير بل اكتفت بادوار غاية في الهامشية وكان جل تركيزها هو التعريف بشخوصها لضمان حصة في السلطة القادمة ليس أكثر, وكان من الواضح جدا انها تركن في وجودها ليس لعمق شعبي بل لعلاقاتها المميزة مع اللاعبين الخارجيين او محاولتها لبناء هذه العلاقات بل كان من الواضح جدا, ان القوى السياسية العراقية تدرك بفعل انفصالها الطويل عن الواقع المحلي بسبب وجودها القسري خارج البلد لمدة طويلة ولهشاشة هيكلها التنظيمي ان وجد اصلا لقسوة النظام السابق وشدة اجراءته الامنية, تدرك هذه القوى ان سر القوة في المرحلة المقبلة يكمن في ارضاء اطراف التغيير الحقيقية بدلا من الاعتماد على العامل الوطني الذي يتطلب الحصول عليه وقتا طويلا وجهدا كبيرا ومع تسارع الاحداث كان يبدو هذا التفكير البراغماتي عمليا جدا ومنطقيا. انما كان يعوزه غياب التفكير الاستراتيجي بل افصح عن سمة بارزة في منهجية تفكير القوى السياسية بشكل عام انها لا تخطط لبناء دولة بقدر ما تخطط لبناء سلطة او على احسن الاحوال انها تضع السلطة اولا في اولويات اهتمامها وتجلى هذا مستقبلا بشكل بين لكل المراقبين.
ومن هنا كان العامل الخارجي اضافة لقوته وتفرده اصلا في عملية التغيير فقد بدأ يزداد قوة بتزايد اذرعه الداخلية التي اصبحت بضاعة رائجة الى حد الكساد في فترات معينة لاحقا. نعم ظهرت قوتان رئيسيتان اربكتا المشهد مبكرا ومن هنا بدأت محاولات التغلب عليهما بالحد من تأثيرهما الحاسم وليس تغييبهما كلية لخطورة الصدام معهما رغم حصول محاولات لذلك ولكن اكتشفت خصوصا القوى الدولية ان تصفيتهما من المشهد السياسي سيربك الوضع اكثر ففضلا عملية احتوائهما باشكال متعددة. ولا تزال هاتان القوتان فاعلتين رغم الاختلاف البين بينهما, واعني بهاتين القوتين المرجعية الدينية في النجف وبالصدريين كتيار شعبي وليس كتيار سياسي وهناك تميز بينهما رغم تداخلهما في نقاط كثيرة. وتشترك القوتان في مسألة التوفر على القرار الوطني المستقل الا انهما يختلفان في ان المرجعية مع تملكها لحكمة عالية ومشروع استراتيجي وسلطة معنوية الا انها لا تملك الادوات التنفيذية الكافية لاسباب ذاتية تتعلق بدور المرجعية كما تراه هي واسباب موضوعية بحكم البيئة والظروف التاريخية اما الصدريون فهم قوة شعبية كبيرة منظمة بشكل جماعي لافت للغاية الا ان هذه القوة عفوية جدا وتصل هذه العفوية الى حد المشاغبة في مرات عديدة بل لعلها سمة لازمة من سماتها وحركة الصدريين مبنية على احساس بضرورة المقاومة الجماعية للاوضاع السائدة اكثر مما تعبر عن فهم واعي لضرورة المقاومة الجماعية والفرق بين الاحساس والفهم شاسع لا داعي لتوضيحه اكثر مما هو واضح اصلا, ومجمل حركتهم تشكل مظهرا أشبه منه باليأس والإنتقام من الاوضاع اكثر من كونها نضالا لفئة اجنماعية عريضة تدرس خيارات ثورية لتغيير الوضع وأن ضعفهم يكمن في عدم كفاية وعي ومبادرة القادة المتصدين رغم تأثيرهم وعمقهم الشعبي الذي لا يتوفر عليه احد من سائر القوى رغم كل الامكانيات المتوفرة لغيرهم حتى بعد ان تملكوا كثيرا من السلطة والمال. وكان ظهور المرجعية والصدريين كتيار شعبي وتدخلهما بالشان العام عاملا مهما في عرقلة العامل الخارجي وكبح انطلاقته ومن هنا بدأت محاولات مضادة لكبحهما وعرقلة تعاظم نفوذهما وقد اجتمعت القوى الخارجية على هذا ليس لان هاتين القوتين كانا يبديان اراءا معارضة وحسب بل لانهما كانا يحظيان باستقلالية واضحة في القرار والمشروع رغم التباين بينهما ولا يبدو انهما في الطريق للتخلي عن هذه الاستقلالية ولم تفلح اي محاولة لخرق هذه الاستقلالية في دور المرجعية وظلت المرجعية تشكل الارادة الوطنية المؤثرة الوحيدة التي تتوفر على قيادة واعية وحكيمة, الا انه ولسوء الحظ فقد تعرض الصدريون الى اختراقات مهمة قللت من قوة تاثيرهم وبسبب عدم كفاية الوعي عند قيادتهم ولعدم وجود مشروع واضح كما اسلفنا فقد تراجع تأثيرهم وهذا هو الذي مكن العامل الخارجي من استكمال مشروعه وساعده كثيرا في ذلك القوى السياسية الاخرى التي كانت ترى ان المشروع الوطني مشروع طوباوي لا يمت للواقع بصلة وان الواقع وفن الممكن كما تعرف السياسة به عند هذه القوى يفرض التعامل مع اصحاب القوة لانهم مركز القرار وبمرور الوقت تلاشى أي امل في تغيير هذه المنهجية النفعية في تفكير هذه القوى السياسية بل ازداد رسوخا هذا المنهج البراغماتي واصبح من ملازماتهم .
وبعد ان عرفنا كل هذا فقد شخصنا سببا رئيسيا لما يجري وسوف يجري ويمكن بعد هذا ان نفهم ببساطة ان القادم لن يكون حتما لصالح البلد لان غياب او تغييب الارادة الوطنية يعني تحكم اصحاب المصالح والنفوذ من القوى الاقليمية والدولية في القرار وأي قرار يتضارب والمصالح الاستراتيجية لهذه القوى الخارجية لن يرى النور ابدا اذا ترك الامر لها. ومن هنا فان اي علاج لا يعمل على تاسيس ارادة وطنية مستقلة تتعامل بندية مع القوى الخارجية وادواتها لن يجدي نفعا . ان العلاج الاستراتيجي يكون بمسارين معا الاول منهما تشكيل ارادة وطنية مستقلة والثاني اضعاف الاذرع الخارجية الى ان يتم تغييبها تماما عن المشهد, وهذه الاذرع ولا شك هياكثر القوى السياسية المتصدية حاليا.
تشكيل الارادة الوطنية المستقلة ينبغي ان يكون بتشخيص هذه القوى والتغاضي تماما عن التناقضات الفكرية او اي تناقضات اخرى والمساعدة على تنمية هذه القوى حتى الصغيرة منها لانها تشترك في مسألة حاسمة وهي ايمانها بالمصلحة الوطنية العليا وسعيها لانشاء دولة وقرار وطني, على هذه القوى ان تتعامل ليس بالاحتواء والتغالب انما بالتعاضد واستثمار كل عوامل القوة صغرت او كبرت لانها تشكل مشروع بناء دولة مقابل قوى لا تسعى لذلك بل اصبح لا يحتل اي اولوية ان لم يكن مستبعدا بالتمام عند بعضها .
ان الحديث عن التناقضات الفكرية بين اصحاب المشروع الوطني ليس افتراضا خياليا فهناك حقيقة لتيار ظهر من رحم الفشل في ادارة البلد وهذا التيار رغم ضألته الشعبية او ضألة قدرته على التحشيد الشعبي لاطروحته الا انه مع ذلك شكل عاملا مهما في خلق الاحتجاجات وديمومتها رغم كل الضغوط التي مورست عليه.
ومن بين هذا الفشل والقمع السلطوي أفرز نفسه كقوة على الساحة لها صوت عالي وقدرة على خلق الاحداث رغم محدودية قوتها على تحقيق مطالبها لاسباب كثيرة بينها غياب الرؤية الموحدة لعناصر هذا التيار . ولذا فان تغافل وجود هذا التيار المدني خطيئة كبرى لانه يعبر عن طبقة واسعة صامتة وان كانت تفتقر للتنظيم ولكنها لم تفتقر لارادة المعارضة المستمرة .
ومع تشكيل هذه الارادة الوطنية المستقلة بتنوع طيفها الفكري فهناك المسار الاخر الذي ينبغي ان يسير بموازة ما ذكرنا وهو اضعاف القوى السياسية المتصدية الان بتشكيل جبهة معارضة قوية فاعلة غير مهادنة تتولى كشف كل سلبيات هذه القوى التي ظهرت على المشهد وتحكمت بادارة البلد واوصلته الى ما نحن فيه الان وسيزداد الامر سوءا ما دامت هي في ما هي عليه. ان تشكيل جبهة المعارضة ينبغي ان يشكل قوة فعالة من حركة احتجاج شعبية سلمية تضع مطالب معينة وتحسب مسبقا اللحظة المناسبة لتصعيد الاحتجاجات وأن تخرج عن كونها مجرد إنتفاضات أناس مظلومين، فإن الإحتجاجات يلزم ان تكون مظهرا من مظاهر النضال بشكله الاولي ضد النظام ولوازمه من قوانين واعراف ….الخ، ومن ثم تصبح هذه الاحتجاجات بعد ذلك نضالا لتغيير النظام ككل. لقد أفصحت الاحتجاجات والتظاهرات الشعبية على مدى السنوات الماضية عن بروز تناحر حاد بين المتظاهرين والسياسيين، ولكن على المتظاهرين ان يعوا التضاد المستعصي بين مصالحهم وبين كل النظام السياسي والإجتماعي القائم، وان يخرجوا من الحالة المطلبية المحدودة وإذا لم يحصلوا على هذا الوعي بهذا المعنى العميق ستظل التظاهرات حركة عفوية محضة بالرغم من التقدم الكبير الذي فد يحصل مع وحدة جهد الاطراف الوطنية المعارضة بتوسع هذه الاحتجاجات وتطورها الى اشكال اخرى. اذ ان الاحتجاجات ينبغي ان تكون بنظر منظميها تحمل هدفا استراتيجيا هو التغيير الشامل ولا لن تكون سوى حركة تزيد الوضع تأزما ولا تقدم حلولا مستقبلية وستكسب غضبا عليها اكثر من التعاطف الشعبي الذي ينبغي تضاعفه بتزايدها. ولا شك ان اتباع سبيل الاحتجاجات السلمية وان كان الهدف منه ليس اصلاح هذا النظام الممسوخ بل تغييره جذريا الا ان الاحتجاج السلمي سيوفر انتقالا بأقل الخسائر التي تصيب البلد فيما لو اختير خلافه طريق الشغب الثوري الذي سيعيد البلد لنقطة الصفر مع مخاطر حقيقية لعودة جهات وقوى غير منفكة عن القوى الخارجية وفي نفس الوقت ستطيح بكل ما تحقق من ازالة النظام الدكتاتوري وهو بلا شك مكسب لا ينبغي الاستهانة به وان لم يقع بالطريقة الصحيحة.