ان المعتقد الديني القوي لدى اي قوات مسلحة يعزز كفاءتها القتالية بشكل كبير، لان الدين يمثل قوة دفع وأساس معنويين يمكن الاعتماد عليهما لتحقيق النجاح التعبوي (التكتيكي).فعندما كان الامريكان في حرب شمال افريقيا يناورون بدباباتهم اثناء القتال ضد القوات الالمانية بساحل شمال افريقيا، ظهر لهم من بعيد جامع القيروان الكبير الذي كانوا يقاتلون للوصول اليه، وقد بنى هذا الجامع من اعمدة الرخام وهي من بقايا مدينة قرطاجنة التي حطمها الغزاة الرومان، ثم اكتشفت هذه الاعمدة واستخدمت مرة اخرى في القرون الوسطى من قبل مجاهدين اكتسحوا كل شمال افريقيا العربي، وهؤلاء المجاهدين من الناحية التاريخية هم رجال الاسلام الذين حاربوا في سبيل الله، وأسسوا دولة اوسع وأكبر من الامبراطورية الرومانية.
وعلى الرغم من مشقة القتال في الصحراء، فقد كان من حسن حظ الامريكان ان الاعداء الذين يقاتلونهم، أـلمان تسلحوا بسلاح جيد وليسوا رجالاً لديهم معتقدات دينية قوية.
ان العالم الاسلامي لديه اشياء مشتركة مع العالم الغربي اكثر مما هو مفترض بشكل عام، فاحتقار المسلمين لايديولوجيات… أمر غير مستغرب.
كما ان بعض مفاهيم الاسلام، كالمساواة بين البشر والالتزام بنهج الحياة المستقيمة واجتناب الشر، هذه اشياء كلها تتفق الى جد ما مع التقاليد الدينية المسيحية واليهودية وبقية الاديان الاخرى غير السماوية.
وهنالك تناقض كبير بين هذه الايديولوجيات ومفاهيمها وبين العقائد (الايديولوجيات…) التي تنادي بالعنصرية وسيادة الدولة المطلقة واهمال الفرد، فبعض الايديولوجيات العقائدية تتنكر تماماً للقيم الدينية والاخلاقية، وتتهم باهتمامها بالقيم الاقتصادية.. لذا فان من المستحيل ان تلتقي مبادئ المسلمين مع هذه الايديولوجيات.
ان اساس العقيدة الاسلامية يتلخص في عبارة (لا اله الا الله محمد رسول الله) التي هي اول كلمات تطرق أذن الوليد عند ولادته، وآخر كلمات تشيعه الى مثواه الأخير. وبين الميلاد والوفاة تتردد هذه العبارة بكثرة وفي كل يوم تسمع عند الآذان للصلاة.
ويركز الاسلام بشكل عام على تزويد العبارات الشفوية التي تمثل الاساس الذي يجعل من الفرد مسلماً بمجرد قبوله وترديده للشهادتين.
وأمة يعتنق افرادها قيماً دينية بهذا العمق يجعل من الصعب وان لم يكن من المستحيل ان تبدل معتقداتها او ايديولوجيتها.
لقد ظهر الاسلام اول ما ظهر في شبه الجزيرة العربية، حيث دعا النبي محمد (ص) المسلمين الى الحق وبشرهم بحياة جديدة، وكان النبي يحيا حياة بسيطة ضارباً المثل والقدوة الحسنة لخلفائه من بعده، ولقد أظهر
المسلمون قدرات قيادية ممتازة. وبفضل ايمانهم القوي بالله وثقتهم المطلقة في قياداتهم، أمكن للمسلمين تحقيق انتصارات عظيمة على قوات أكثر منهم عدداً وعدة. والامثلة التالية تؤكد هذه الحقيقة:
* معركة بدر
بعد اشتداد عنت الكفار على المسلمين في بداية الدعوة الاسلامية قرر النبي (ص) الهجرة مع المؤمنين من مكة الى المدينة حيث الأمان، وقد بدأ اهل مكة في التعرض الى ممتلكات المسلمين، وهنا قرر المسلمون مواجهة اهل مكة في معركة حربية كان عدد المسلمين لا يتعدى الـ (314) فرداً، ويفتقرون الى تسليح جيد وقد احتلوا موقعاً هاماً من الناحية التعبوية (التكتيكية) في الصحراء (آبار المياه في مكان يدعى بدر على بعد 58 ميلاً تقريباً جنوب غرب المدينة المنورة).
اما المشركون فقد كان تسليحهم جيداً ويربوا عددهم على (1300) محارب، غير ان المسلمين كان يحركهم ايمانهم وعقيدتهم الاسلامية القوية لا سيما وان النبي (ص) كان يقودهم بنفسه مما حفزهم للاستماتة في القتال وهم يعلمون ان الجنة من نصيبهم اذا استشهدوا، لذا كانوا يقاتلون بشراسة غير مبالين بحياتهم، ولم يمض وقت طويل الا وانهزم كفار قريش وبدأوا في التقهقر تاركين وراءهم اكثر من (70) قتيلاً.
وهكذا حقق الاسلام اول انتصاراته العسكرية في هذه المعركة الحربية الحاسمة بفضل قيادة النبي (ص) الملهمة.
* معركة اليرموك
تعتبر الحملات العسكرية التي قادها خالد بن الوليد في العراق وبلاد فارس وسوريا ومصر من بين ابرز المعارك في تاريخ الحروب، وهي بذلك لا تقل عن الحملات التي قادها نابليون وهانيبال والاسكندر، استخدم سيف الله المسلول خالد بن الوليد، الجمال والخيول كوسائل للنقل عبر الصحراء محققاً بذلك سرعة فاقت تقديرات العدو، وكلما واجه خالد خصماً كان دائماً يعرض عليه ثلاث خيارات وهي: الدخول في الاسلام، او دفع الجزية، او القتال. وكان دفع الجزية هو الخيار الاكثر قبولاً، الا انه وجد مقاومة من بعض الحكام والجيوش وخاصة الفرس والمسحيين.
كان خالد يعمل في العراق عندما صدرت اليه الاوامر بالتحرك الى دمشق وقد انيطت به مهمة هزيمة جيش هرقل البيزنطيني انتقاماً لمقتل مبعوث النبي (ص). تحرك خالد بجيشه عبر الصحراء من العراق وبلغ مشارف دمشق خلال (18) يوماً فقط، ووجد نفسه في مواجهة جيش الامبراطورية البيزنطينية الذي يقدر بأكثر من (200.000) مقاتل مقابل (40.000) مقاتل مسلم. بدأ خالد بحشد قواته في وادي اليرموك، احد روافد نهر الاردن وقد عرض خالد نفس شروطه التقليدية قبل ان تبدأ المعركة، وعلى الرغم من تفوق العدو البيزنطيني على المسلمين من حيث العدد الا ان ايمان المسلمين بمبادئهم كان من القوة حتى كان الواحد منهم يقاتل وكأنه يخوض معركة شخصية، كما ان تأثير قادتهم عليهم واقتدائهم بهم جعلهم يحاربون مثل جسم واحد متناسق الحركات، وقد جاء على لسان سايروس نائب بطرريك الجيش البيزنطيني ما يلي: لقد كنا في مواجهة قوم يؤثر
كل منهم الموت على الحياة والتواضع على التعالي ولا يوجد لدى اي منهم رغبة في الدنيا ومباهجها. انهم لا يجلسون الا على الارض ولا يأكلون الا وهم جالسون وقائدهم الامير لا يختلف عن اي واحد منهم ولا يمكن ان تفرق بين الكبير والوضيع ولا بين السيد والعبد، وعندما يحين وقت الصلاة لا يتغيب احد منهم بل يقوم الجميع بالوضوء وتأدية الصلاة بخشوع.
وقد اسفرت المعركة عن هزيمة ساحقة للبيزنطينيين دفعت فلولهم من المرتزقة الارمن والعرب عبر النهر والوادي السحيق، وتم ابادة الذين تمكنوا من الهرب في وقت لاحق، ووقع تيودور قائد الجيش البيزنطيني نفسه في الأسر، وتحول الجيش الى شراذم مندحرة يملأ قلوبهم الرعب وهكذا تقرر مصير الشام.
وبالدراسة المتـأتية يتضح مدى الدور الذي يمكن ان يلعبه القادة الدينيون لتغيير سلوك الشعب بفعالية من خلال تعاليم الاديان- بغض النظر عن صحتها او بطلانها- وأمثال هؤلاء سواء أكانت تحركهم مشاعر وطنية او دينية فالمحصلة النهائية واحدة، وهي استعداد هؤلاء الرجال للتضحية بحياتهم بكل سرور في سبيل اهدافهم. ومن الملاحظ في كل الاحوال، ان الرجال الذين تحركهم معتقدات دينية يقاتلون بشراسة وعنف ليس لها مثيل.
والخلاصة: ان كل الناس لديهم جذور دينية او عرقية، وقد تكون هذه الجذور قصيرة وضعيفة او عميقة وقوية، والمعتقدات الدينية اذا كانت راسخة وعميقة الجذور، فانها تمد الرجال بالقوة والصبر على تحمل الشدائد بشكل غير مألوف، وعلى القادة الذين يقاتلون مع او ضد رجال من أمثال هؤلاء ان يتفهموا تماماً البعد الهائل لهذه القوة وألا سوف يتكبد هؤلاء القادة خسائر تكتيكية واستراتيجية على الدوام، وبذا يدفعون ثمناً باهضاً نتيجة عدم ادراكهم لهذه القوة – قوة الايمان كعامل مضاعف للقدرة القتالية.
[email protected]