تتعالى الاصوات الجماهيرية المطالبة بالتغيير والاصلاح وبأكثر حدة واحتداماً من اي وقت مضي وبدأ المرجل العراقي يغلي.منذ مدة ليست بالقصيرة تشهد العاصمة بغداد انطلاق سيل الجماهير نحو نصب الحرية في نهاية كل اسبوع لتعبر من خلال مظاهراتها عن عمق سخطها وشجبها ازاء ما يجري في البلاد من فساد ونهب وسوء للادارة وضعف وقصور في الجوانب الامنية وتراجع مخيف في المستوى المعيشي برغم معاناة البلاد المزمنة من شرور البطالة والفقر التي تتصاعد كل يوم بارقام مخيفة منذرة بالخطر فضلاً عن وهو الاهم تحول المشروع السياسي الديمقراطي الى مشروع سلطة على طريقة من يحكم يملك بكل ما يحمله ذلك من عنفوان التسلط على المال العام بشتى الألاعيب على حساب نهضة المجتمع وحل مشكلاته المستعصية ورسم طريق واضح المعالم للتقدم وهو تطلع مشروع صدمته مرارة الواقع الجديد وخيباته المتفاقمة.
فالمجتمع العراقي وطوال عقود مضت شبع حد التخمة من شعارات المزايدة الطنانة والوعود العسلية النائمة والمشاريع الدعائية والسياسية المرَّة.
ثقلت الأوزار بما لا يطاق فهل من سبيل للحكمة في حلحلة الاوضاع واعادتها الى توازنها الطبيعي المتناغم مع ايقاع الحياة المنشود في بلادنا التي لاتزال ارضها ملتهبة بحمم المعاناة والمشكلات منذ عقود.
تواجهنا ازاء واقعنا المؤسف تساؤلات منبعثة من عمق الازمة مفادها .. لماذا احتدمت المظاهرات الجماهيرية حد الاحتقان؟! وما شكل الاصلاح وآفاق التغيير الذي تنشده الجماهير؟!.
انطلاقة المظاهرات كانت منذ سنوات والمعارضة الجماهيرية لم تقتصر على العاصمة بغداد وحدها وانما امتدت الى سائر المحافظات حيث كل يبعث معاناته وشكواه ولو اجيبت الدعوات بمعدل واحدة في السنة لكان الوضع مختلفاً الآن . الارادة الجماهيرية تعبير حي عن رفضها للواقع البائس الذي لم تحاول الحكومة الاتحادية والحكومات المحلية تغييره .
التجربة الجديدة كانت لحظة ولادة عصية في مجرى الكفاح الذي قادته القوى الوطنية والشعبية ضد النظام البائد ووفّرت مناخاً ملائماً جديداً لتشيد صرح ديمقراطي بنّاء يضع اللبنات الصحيحة لتحقيق الاهداف في التنمية الاقتصادية والبيئية والعدالة والاستقرار واتاحة الفرصة لأنتزاع المبادرة من النظام السياسي لتكون بيد الجماهير وهو حدث نوعي يحدث لأول مرة في تاريخ البلاد المعاصر .
المعاناة المتراكمة على مدى عقود من الحرمان والاقصاء وولادة النظام الديمقراطي الجديد بسط الاحلام الوردية للناس الذين كانوا يحلمون على الدوام بيوم موعود خال من التمييز والأقصاء والجوع فالشعب العراقي كان مغلوباً على امره وغير قادر على فرض تغيير النظام السابق.
ومع بدء المشوار وتوالي حكومات العهد الجديد . ظهر ما لم يكن في الحسبان فالمشروع الديمقراطي الذي ارتكز على دستور دائم وضع اساساً قوياً لاصلاح اقتصادي وسياسي واجتماعي وثقافي حسدونا عليه في الشرق الاوسط وبعض دول العالم انحرف عن سكته من خلال الخروقات الدستورية العديدة وابتعد النهج عما كان مقررا بالتوافق والمشاركة الحقيقية لمختلف المكونات ما باعد المسافات بين مختلف القوى بدلا من تجميعها وأجماعها وتبدلت طبيعة التفكير الحكومي واسلوب عملها وأدائها الذي بات لا يتماشى مع خطة بناء البلاد المرسومة دستورياً.
توالت الازمات وتفاقمت وتفشت في البلاد اعتى موجة فساد ضرب باطنابه معظم مفاصل الدولة من دون الانتباه الى التداعيات وخسرت البلاد فرصة تاريخية ولحظة مؤاتية لإعادة البناء وفرتها العائدات النفطية الضخمة وتصاعد اسعار المحروقات التي بلغت مئة وخمسين دولار للبرميل الواحد وهو الاعلى في تاريخ التجارة النفطية على الاطلاق.
كانت النتائج مخيبة لآمال الناس الذين دفعوا فواتير كثير من التضحيات على طريق التغيير واصبحت السياسات والاهداف لاحقاً تجري في نهر آخر تمليه الاهواء والأمزجة والمصالح الشخصية.
وعندما يصل اتجاه الامور بهذا الشكل وتفقد السياسة وضوح اهدافها على حد تعبير احد المفكرين فان الرجال المكلفين بها تتنازل بهم الادوار من المشاركة في صنع التاريخ الى الانغماس في صنع دسائس السلطة وذلك لا يقلل من قيمة الاهداف والسياسات فحسب ولكنه يتنازل بقيمة ومكانة الرجال ايضاً على حد قوله.
ظروف التراجع ونتائجه غدت خطيرة افقدت البلاد ثلث مساحتها في معاركها ضد الارهاب وزادت الاوضاع الاجتماعية والمعيشية سوءا وتضاعفت أعداد العاطلين ومن هم تحت خط الفقر الى درجات مخيفة منذرة بأشد العواقب سوءاً فيما الوضع الامني محنط في مكانه لا يجاري التطورات والتغيرات ما ادى الى ازدياد حالات التفجير الانتحاري بشكل موجات بين آونة واخرى .. وشهدت البلاد أجواء متوترة ومنذرة .
أدى ضياع آفاق التقدم من خلال ضياع اسباب التنمية والتعليم والبرامج الصحية والتقنية وغيرها فالعداد يطول وبرغم الوزارات الاربعين او اكثر احياناً التي استنزفت البلاد ماليا فأن البلاد لم توضع على خط البناء الصحيح وغابت المشاريع في افواه
الفاسدين. ضياع الاموال ضيع ايضا فرصة انتشال البلاد من الازمات الماحقة خاصة بعد هبوط اسعار النفط بطريقة دراماتيكية.وهي التي أحزنت الفاسدين وبخرت جزءا من احلامهم المقبلة .
وهذه عوامل ضاغطة نفسياً واجتماعياً مؤثرة تركت بصماتها على حياة الناس ونمّت فيهم روح التذمر.
الآن والحديث يجري ساخنا عن الاصلاح والتغيير وتطرح مختلف الرؤى كيف تستعيد الامور مسارها؟.
في الواقع ان قناعة العراقيين في اجراء الاصلاح الاجتماعي والتغيير تامة .
لكن من اين تبدأ ، هل تبدأ من القمة الى القاعدة ام من القاعدة الى القمة .. هذا السؤال كثيراً ما يثار وثبت ان الاصلاح من القمة غالباً ما يتوقف عند نقطة معينة حين يلامس مصالح الطبقة الحاكمة بأهداف الاصلاح الجذرية.
اما عن الاصلاح من القاعدة فقد بدأ مبكرا من خلال انتخاب المجالس البلدية والمحافظات التي شملت بعد انتقال السلطة انتخاب البرلمان والبرلمان الذي انتج الحكومة وغيرها.
اليس هذا بما يلقي جزءاً من المسؤولية على كواهل الناس لانهم من باشر بالانتخاب فلم يحسنوه برغم ان بعضهم يوعزه الى ان الخيط الابيض من الاسود لم يكن واضحا وهي ادهى وامّر.
وما يتعلق بالاصلاح في القمة يتطلب المشاورة لكن قوى القمة متشعبة عديدة تختلف في مستويات النظر للامور فهناك تفاوت في بعض الحسابات والاهداف تجعل من النظر للامور محسوبا باسترايتجيتها .
ولعل انقطاع عدد من الاحزاب عن جذور قاعدتها سنوات طويلة لمنفاها في المهجر وغياب التفاعل البناء في القرار والاختيار بسبب النظام الاستبدادي البائد ادى الى ضعف التلاحم ما بين الطبقة الفوقية والقاعدة وربما هي احدى محفزات التحول السلطوي فكيف سيكون الحل؟
هل نحتاج الى مراكز دراسات وبحوث استراتيجية تمولنا بالحل ام ان الامور واضحة بما يكفي.
الآن وبعد توضيح الخطوط والمسافات والمواقف بين مختلف التيارات في البلاد فأن نهوض ادارة قوية جديدة نزيهة من تحت الرماد لحماية الدستور والعمل به تعد من اولى خطوات الاصلاح .
على ذكر النزاهة هناك حدث من الماضي فلعله ينفعنا الان كقرش ابيض
طلب الملك فيصل الاول رحمه الله من وزير ماليته وهو الوزير ساسون حسقيل اليهودي العراقي الذي كان اول وزير للمالية في العراق بعد ظهوره دولة واليه يرجع الفضل في جعل الدينار العراقي مقابل الذهب في التعاملات المالية ان يجهز له مبلغا من المال لانه دعا عدداً من السفراء الاجانب الى وليمة في بيته وليس عنده مال كاف لذلك اعتذر الوزير مخبرا الملك بانه لايستطيع منحه اي مبلغ وقت حاجة الملك لعدم وجود قانون بذلك لكنه يستطيع ان يمنحه سلفة يستقتطعها من راتبه وقد كان .
المفيد ذكره ان غاية الاصلاح هي التعايش بين البشر متساوين في الحقوق وفرص العمل والحياة والتقدم وفي حماية القانون والعدالة فمنذ تاريخ موغل في القدم هدفت البرامج والافكار واي مشروع اصلاح الى تحقيق امرين اساسيين العافية والامان .
ان الفرصة ما تزال قائمة لتدارك الامور من خلال اعادة الاموال المنهوبة وهي سهلة الاسترجاع عن طريق المنظمات الدولية ذات الشأن واعادة المسار من جديد بعد استيعاب ما جرى بوعي جديد.