فاتحة :((أرى الأرض تبقى والأخلاء تذهب ))
الغمطمش
مدخل المسمى :
نبط / همع / رمد / أم قشعم / حمام / فوت / زؤام / ذعاف / حجاف …
فقس / فطس / عضد / طن / لعق إصبعه / رق بنفسه / حرض بريقه / آثر الله به / انحل تركيبه / مضى لما خلق له / أتاه ما كان يحذر / دعاه ما كان يخبر / شرب الدهر عليه واكل / أملت حريضا / أفضه شعوب / وجبت نفسه / نضب ظله / قرض رباطه ووصل به إلى ابي يحيى …….
قاموس يزخر بغرابة يفصح عنها الموت ، ولكن بعجمة بائنة متلعثمة لطالما اصطدمت بفصيح اللغة ، فراحت تبحث عن معنى ! او لنقل إن المعنى قائم ، ولكن القناعة تغادرنا . فالموت متجدد فينا ، ولكن غرابته تهزمنا ، وتترك فينا سيولا من أسئلة جريئة لطالما تحرت اجوبتنا المتوارية ، فرحنا نكرر أسئلة أجاب عنها هاجس راح يكرر أصواته الممزوجة بتصورات وأصوات وأشباح ما زلنا نراها ونبصرها ونجدها قريبة منا ، ولكنها تنأى عن أفكارنا التي تأبى أن تموت ، او حتى ترفض أن تفكر بالموت .
إذن هي يا صاحبي سلسلة طويلة من توصيفات وأسماء الموت لم يتوصل إلى حقيقتها عقلك ، فرحت تتخبط بتسمياتها ومسمياتها ، وضاع الوصف والتحديد ، مثلما ضاع خيط طائرتك الورقية التي كنت تنقش عليها قصيدتك المهاجرة ، من محلة الجمهورية الثانية إلى سوق البنات . وهمت في فضاءات النفس تحث خطاك المترددة ، وآنت تبحث عن ذاتك التي غادرتك مذ ألف عام .
مهيمنة الموت سيدة المواقف ، فارسها الأول هادم اللذات ، وغرابتها هي غربتها التي تجعلك تمتطي الظن وتغلب احتمالات المكان ، وكأنك منسلخ عن عالمك ، تهاجر في مدن منسية دارسة ، إلى مدن تعتمر العافية وتعشق الشمس .
فضاعة مشهد الموت تجعلك متعثرا بحساباتك ، تنظر إلى أحبة كانوا جزءا من عالمك ، ولكنهم الآن يرهبونك بسطوة سكوتهم ، أجسادهم الساكنة ورممهم الملقية هناك بلا حركة ، مثلما لعب الأطفال المملة . هكذا هي دار دخلناها من باب وخرجنا من باب أخرى ، ونحن نزيد من التفاتاتنا إلى عالم لطالما ضج بأحبابنا قبل أن يضج بنا .. هكذا هو الارتحال يتجدد بنا ، ونحن لم نتنعم بمشهد باق ، فسرعان ما يحفل بالتغيير ، لتتراقص صورته بيننا ، ونحن نستحضر بداياته قبل نهاياته التي كنا فرسان رواياتها .
سطوة الرمم :
((ميتا خلقت ولم أكن قبلها شيئا يموت فمت حين حييت ))
ديارك الخالية عامرة بالبلى ، والعطل البين صورتها ، الصمت كلامها الخراب ، المنتشر بأوساطها ، والدمار الذي يلف طولها وعرضها ، عمرانها الذي ولى ، وبناؤها الذي تقزم ، فما عاد للحركة من مكان ، ولا للسنين من زمان ، فكل شيء خمد ، وكل حراك جمد ، فلم يعد في وسعك الطواف ، ولم يكن للصوت من هتاف ، الدموع عليك انهمار ، والليل تباكى والنهار .
حج إلى الشمس :
الحدباء التي حملتك تأرجحت على روحك الغضة ، والأعواد التي ركبتها غدت جسرا لك لتعبر إلى الضفاف الأخرى ، حيث يستقر السمر في مقاهي الزبير ، فهناك ينتظرك الأحبة ، وأنت تواظب على مرورك بمدينة الرمل قادما من بيوت الجامعة في (كرمة علي ) . ما هي إلا سويعات يحتدم بها نقاش الأدب والثقافة والحياة ، وسط قرقعة أكواب الشاي المدخنة كما القلوب ، كنت تصل أعتاب الآخرين من دون زورق يتهادى ، او جمل يترنح ، او عجلة تمخر فضاء الزحام المتلبس بالنفوس الغرثى ، فما اقصر المسافة بين الميلاد وبين الأجل المحتوم ، وما ابعد اللقاء بين الغياب والأفول .
عشق الرمل :
لطالما تساءلنا اهو الوفاء سيدي ، تختزل مسافة الحب لتصل إلى حيث ما تستقر الذكرى ، وتعود بعد الغروب ونحن نشايعك بإكبار شخصك النافد بنا ، لتعود مبتسما . أي وفاء تسمو به نفسك وأنت تكرر أسماء أحبتك : عمر محمود صليبي ، عبد الستار عبد ثابت ، ثامر العساف ، جبار حمدان شاهين ، حميد بلاسم ، ناهي عبد السادة ، سامي تومان … عشرات بل مئات من الأسماء الذاوية إليك ، العجيب انك كنت تحتويهم ويحتوونك ، بفيض مشاعرك التي تبث دفئا لطالما بقي ملتزما بطقوس حرارته .
أفول الشراع :
نومك الطويل أطال المقام هذه المرة ، وانتفضت أحلامك فراحت تشير عليك ، وأنت تعتمر صهوة الغياب وتشق نياسم الصباحات الحالمة من دون الحضور ، المنية التي تخجل منك راحت تسهم في آجال الآخرين من دون أن تتوقف بساحة السؤال ، فهناك الكثير ممن يفيض بالعتب ويقول : طهران لم يمت ، لأنه يعيد علينا ميتته القديمة ، فكم قال لنا إنني ميت من ذي قبل ، ولكنه وجودا وقحا كان يهاجر حيث يلتقي الأحبة .
عندما يسمو اليباب :
في ذلك اليباب المنتشر حيث تسمو كهولة الأرض ، وتغادر خضرتها ، كان مسلم سيد زيارة يمطرك بوابل قصيده ، ويستجلب القوافي الشاردة ليصب رائعته المؤجلة إليك ، ولكنك كنت توغل في الأفول الذي لفك ، لتصبح كما الأشباح المتراقصة في حلم الشاعر ، فهي تتحرى طيفه قبل أن يفيق من وجومه المطبق .
شاهدة البحر :
كنا في (أمواج والمجلة البحرية ) قبل دخولنا مهزلة المصير ، نتبارى على موضوعات البحر ، ونقتسم ملاحمه ، ولا يفصل أكاديمية الخليج العربي عن مركز علوم البحار ، سوى حاجز من نهير مندرس ، تسكنه سناجب النخل . أتذكر انك أمسكت بواحد راح يستدر شهامتك ، فضحكت وأطلقته إلى عالمه الطيني ، قلت لي في حينه : (عادل ، لطالما أبصره ، كان يلوح لي بعبارة الشكر من بعيد ، كنت اقرأ ذلك في عينيه ) . كنا نعيد أغنية السندباد ونكررها ، لا بشعر محمد الفايز وانما بصوت شادي الخليج : ( البحر أجمل ما يكون لولا شعوري بالضياع ) ونكرر مخاضات أبناء السندباد لالن فلييرز ، تلح عليّ أن اعد اليّ حكايتك المكرورة عن البحار الأديب جوزيف كونراد مؤلف (مرآة البحر ) ، فأعيد إليك حكايته منتشيا ، نعم ، فهو الابن الوحيد الذي يهتم بشيئين من شئون الحياة : تحرير بلاده من الحكم الروسي ، وحب الأدب والأدباء . كنا نستعرض رحلات (القوص ) عذرا (الغوص) ، وضحكت فيها ، كنت بنكتتك المعهودة الغريبة تضرب على وتر قديم ، ونستعرض ما ركبه الطواشون في ذلك اليم المديد ، وذلك البحر الرهيب : البغلة والبدن والبوم والجلبوت والسمبوك والشوعي والزاروك … وكل ما خرج من كتابي الذي كنت تحتفظ به ، على الرغم من ضياعه مني لمرات : (المعارك البحرية في الإسلام ) قلت لي يوما : انه مصدر لي لطالما اعتمده ، وتشيد بمقدمة الراحل حامد البازي وتضحك : ان كيف فرضوه على كل كابتن من العسكر والمدني ، وأجيبك : أنا تخلصت من كتابي (اللعنة ) فتخلص انت من اسمك (النقمة) فنضحك حدّ البكاء .
عودة البحار :
ها هي السفن تعود وثمة أغنية متهادية مع الريح تردد :
اصعدي عاليا أيتها العارضة !
لا تظني أن باستطاعتك ان تستريحي !
انتشر أيها الشراع الكبير ،
وضم إلى صدرك
الريح التي يبعث بها الله ،
لأننا متجهون إلى الوطن
ستعود ، لا بد أن تعود ، محملا بحبالك وعدة البحر التي تهد أكتافك ، النوارس التي تشايعك تنشد مع الموج اناشيد الوداع ، جيوبك خالية من الدر ، فاللؤلؤ خلق لغيرك ، والجواهر تأبى أن تحط رحالها في جيوبك المثقوبة ، وأنت كما الطين يسمو متقزما ليعود منتشيا إلى الطين .
خاتمة :
لأول مرة اقرأ في الدموع المنهمرة عليك اشرافات الابتسامة الطافحة من العيون ، الليل الذي اشتملك لم يحلم بالنهار، نجوم باكيات يشاطرن القفار النحيب ، فللصحارى أصداء تمتزج مع العويل ، وتسابق ذلك النشيج البطيء . قد تغور الكواكب في تلك الكثبان الحامية ، وتؤشر على داركم الملأى بالشعر ، كان الشعر هويتكم ، زادكم وشرابكم الذي ترك ملح قصائده في قلوب الزبيريين ، فما زالت قصائد داركم عامرة بالطين الذي يسابق الرمل ، ويرسم أسطورة التوحد سامقة على الرمال الشاهدة عليك ، الرمال الواشية بنا .
المصدر : الإجازة في تشييع الجنازة – تأليف عادل علي عبيد مكتب سهيل للطباعة والاستنساخ 2000م