ترددت بعض الشيء في إعداد مقالة بهذا العنوان، ولكني وجدت أن ما أسرده من أمور عن مآدب الإفطار التي أمر بها الرئيس “عبدالسلام عارف” في حينه ووافق على ترتيباتها تدل بوضوح على رغبته في الإحتكاك مع شرائح واسعة من مكونات المجتمع العراقي الزائرة للقصر ومحاولة تبيان شعبيته والبرهنة على إستقرار نظام حكمه وإستتباب الأمن في “العراق”، ناهيك عن تسجيله سابقة في هذا الشأن من حيث إقامته لهذه المآدب وبهذا العدد الهائل من الحضور في أروقة القصر.
فقد شاءت الصدف أن تكون سريتنا مكلَّفة بواجب حماية القصر الجمهوري خلال شهر (رمضان المبارك/1384هـ)، والتي توافقت مع الأيام (3/1-31/1/1965)، إذْ بُلِّغْنا بالتهيؤ للمشاركة في إستقبال المدعوين لـ(9) مآدب إفطار قرّر الرئيس “عبدالسلام عارف” إقامتها وسط قاعة الإحتفالات الكبرى ضمن أيام متفرّقة من ذلك الشهر الكريم وبواقع (500) في كل يوم، حيث تم توزيع قوائم بأسماء ومناصب الذين سوف يحضرونها، وكانت هناك نسخة منها في “غرفة التشريفات” قبل أن يتم نشرها في الصحف اليومية.. وقد تمّ تطبيقها كما يأتي:-
* في اليوم الأول، حضرها رئيس الوزراء وأعضاء المجلس الوطني لقيادة الثورة، جميع الوزراء، كبار قادة القوات المسلحة، رئيس جامعة “بغداد” وعمداء كلياتها ومعاهدها وجميع أساتذتها، رجال السلك الدبلوماسي العربي والإسلامي، كبار موظفي الدولة، مُفتي الديار العراقية، رجال الدين، ورجال الصحافة.
* في يومه الخامس، كان هناك (500) من مواطني “بغداد” والألوية (المحافظات) الذين فوجئوا بـ”العقيد هواري بومدين” -نائب رئيس الجمهورية الجزائرية ووزير دفاعها- والوفد المرافق له وهو يتناول طعام الإفطار معهم.
* في اليوم الثامن، حضر المأدبة (500) طالب وطالبة من مختلف كلّيات ومعاهد جامعة بغداد، أُضيف إليهم وفد كشفي أردني كان قائماً بزيارة العراق في تلك الأيام.
* وفي اليوم العاشر، كان الحضور كبار موظفي الدولة وضباط القوات المسلحة، وقد أُضيف إليهم وفد من مُدرّسي ومُدرّسات المملكة الأردنية الهاشمية كان زائراً لبغداد في ذلك اليوم.
* في اليوم الثاني عشر، تواجد في القصر عدد آخر من كبار موظفي الدولة وضباط القوات المسلحة من الذين يشغلون مناصب عليا خارج بغداد.
* وفي اليوم الخامس عشر، حضره رئيس وأعضاء الهيئة الإدارية لنقابة المحامين، موظفو المؤسسة الإقتصادية، عدد من ضباط القوات المسلحة وآخرون مصريون من منتسبي القوة المدرعة المصرية المتمركزة بمعسكر التاجي، عدد من رجال الأعمال، ووفد من رؤساء/آغَوات العشائر الكردية من لواء “أربيل” وقضاء “عَقرة”.
* وفي اليوم العشرين، كان الحضور (500) آخرين من مواطني “بغداد” وعموم الألوية (المحافظات).
* في اليوم الثاني والعشرين، كان هناك (500) كذلك من المواطنين الإعتياديين بحضور رئيس الوزراء “الفريق طاهر يحيى” وأعضاء اللجنة التنفيذية العليا للإتحاد الإشتراكي العربي العراقي وعدد من أعضائه. وقد أُضيف اليهم وفد طلاّبي كويتي كان يزور العراق.
* وفي اليوم الرابع والعشرين، كانت المأدبة مخصصة للهيئات الإدارية للنقابات المهنية والجمعيات العلمية والخيرية والدينية والإنسانية، وعدد من ضباط القوات المسلحة، ووفود من ألوية (محافظات) العراق الشمالية.
* وفي مساء اليوم التاسع والعشرين، كانت هناك مئات المآدب، ولكن بأسلوب آخر، وذلك بإقامتها على نفقة القصر الجمهوري، كانت كُبراها في “جامع ثُرَيّـا” بكرخ بغداد، وقد حضرها رئيس الجمهورية وسط جمهور غفير من المواطنين الإعتياديين… كما كانت هناك مآدب بالعشرات في جوامع “بغداد” وكبريات حُسَينياتها… وفيما حضر رئيس الوزراء إحداها، فقد كُلـِّفَ وزير واحد لحضورها في جامع أو حُسَينية معينة… في حين أقيمت مآدب إفطار عامة في جميع ألوية (محافظات) العراق وأقضيته ونواحيه، والتي حضرها المُتَصَرِّفون (المحافظون) وكبار موظفيهم في مراكز المدن، والقائمَّقامون في الأقضية، ومديرو النواحي في نواحيهم.
كنا -نحن ضباط سرية الحماية- مدعوّين غير رسميّين للحضور في جميع المآدب دون إستثناء، وكان الرئيس “عبدالسلام عارف” يجلس في صدر القاعة بالطبع، ويحرص على التواجد فيها قبل حوالي ساعة من موعد أذان المغرب فيستقبل جميع المدعوين ويصافحهم فرداً فرداً قبل أن يوجههم موظفو التشريفات إلى أماكن
جلوسهم غير المحددة بالإسم… أما ضباط الحرس الجمهوري الآخرون -عدا المكلَّفين بمهمّات في ثكناتهم- فكانوا مُخَيَّرين بالحضور في أية مأدبة يشاؤون دون إستثناء.
كان التحدّث بين عموم الحضور مسموحاً حتى يبدأ القارئ “الشيخ محمود خليل الحُصَري” -الضيف المصري على شخص رئيس الجمهورية- تلاوة القرآن الكريم قبل نصف ساعة من موعد الأذان، إذْ يمتنع “الرئيس” عن الكلام مع أي أحد، بل ولا يسمح لأي من المدعوين بذلك، حيث تعمّ القاعة هيبة “القرآن المجيد”.
ومع أذان المغرب، يتناول الجميع عدداً من حبّات التَمر وقدحاً من اللبن، قبل أن يتوجّه “الرئيس” إلى القاعة المجاورة المخصصة لأداء فريضة الصلاة، حيث يقف في الصف الأول خلف سماحة الشيخ “نجم الدين الواعظ” مفتي الديار العراقية، والذي كان من ضمن الحضور في جميع مآدب الإفطار، وذلك قبل أن يكمِّل “عبدالسلام عارف” صلاته بركعتي السُنّة النبوية، ويتوجّه إلى المناضد العامرة التي فُرِشَ عليها ما لذّ وطاب من الطعام والشرابت والفواكه والحلويات الراقية.
كان “عبدالسلام عارف” يتصرّف أثناء تناول الطعام وكأنه صاحب الدار، حيث يتنقل من منضدة إلى أُخرى ليُجامل الجميع عن قرب، ويخصّ منهم المواطنين الإعتياديين في أيام حضورهم وفق ما ذُكر… ولا ينصرف المدعوون من القصر الجمهوري حتى يقف سيادته أمام الباب الرئيس لمبنى القصر عادةً ويصافحهم جميعاً قبل أن يغادروه ممتنّين.
كان الأشخاص الإعتياديون من المواطنين المدعوين إلى المآدب هم الوحيدون الذين يخضعون لتفتيش أجسادهم قرب الباب النظامي للقصر لغرض التأكد من خلوها من أي سلاح، إذْ يقوم به عدد من أفراد فصيل الحماية الخاصة لرئيس الجمهورية… أما الآخرون فهم يدخلون القصر بسياراتهم الرسمية أو الشخصية إلى ساحات الوقوف المخصصة… فيما لا يترجل الوزراء وكبار ضباط القوات المسلحة وموظفي الدولة من سياراتهم الرسمية حتى وصولهم إلى الباب الرئيس لمبنى القصر الجمهوري.
أما جنودنا -نحن سرية حماية القصر- فأن “صينيّة” كاملة مليئة بالطعام كانت تصل إليهم وبمعدل واحدة لكل نقطة حراسة أو برج حماية دون إستثناء، وفي جميع أيام رمضان المبارك، وليس في أيام مآدب الأفطار فحسب.
لم تختلف مآدب الإفطار خلال شهر رمضان التالي عام 1385هـ (24/12/1965-21/1/1966) عن سابقاتها، إذْ بلغ عددها (10) مآدب.. ولكن
ضيف رئيس الجمهورية الشخصي في هذه المرة كان القارئ المصري “الشيخ عبدالباسط محمد عبدالصمد”.. وأن “عبدالسلام عارف” -مصحوباً برئيس الوزراء وجميع الوزراء وكبار رجالات الدولة والقوات المسلحة- قد حضروا مأدبتين عامَّتَين… أُولاها، في “الروضة الكاظمية” مساء (25رمضان) أقامها أهالي منطقة “الكاظمية”، والثانية في “جامع الإمام أبي حنيفة النعمان” كان أهالي منطقة “الأعظمية” قد تكلّفوا بها يوم 27 منه.
أما المدعوّون إلى المآدب العَشْر التي أُقيمت في أروقة القصر الجمهوري، فقد كانوا مجموعات تسلسلت أيام حضورها كالآتي:-
– رئيس الوزراء والوزراء جميعاً، رئيس أركان الجيش وكالةً، وفد سوداني زائر، رؤساء البعثات الدبلوماسية العربية والإسلامية، قادة الجيش وكبار ضباط القوات المسلحة.
– سفراء دول العرب والإسلام ودبلوماسييهم وملحقيهم العسكريين والتجاريين والثقافيين.
– رجال الدين والقانون والقضاء العسكري.
– رئيس جامعة بغداد وعمداء كلياتها ومعاهدها وأساتذتها جميعاً.
– رجال الأعمال ورؤساء الهيئات الاقتصادية والتجارية وأعضاؤها.
– ضباط الجيش من رتبة “عقيد” فما فوق ممن في الخدمة، والمحاربين القدماء (الضباط المتقاعدون) بالرتبة نفسها.
– منتسبو النقابات المهنية والجمعيات الخيرية والأدبية والنوادي الرياضية ورجال التعليم.
– طالبات وطلاب جامعة بغداد.
– الفلاحون والعمال.
– جميع طلاب دورات الكليات “العسكرية والقوة الجوية والبحرية”، وكلّيتا الضباط الإحتياط والشرطة.
– رجال الأعمال والصحافة وموظفو وزارة الثقافة والإرشاد.
– لفيف من المواطنين الإعتياديين محددين بالأسماء.