اذا كانت حقائق الحياة البايولوجية، على الرغم من وجودها الموضوعي، ظلت عصية على الذهن الانساني طوال قرون عديدة، فلا عجب ان تبقى الحقائق الانسانية الأشد غموضاً وتعقيداًىوتنوعاً وتناقضاً، هاجس الانسان الاكبر الذي يتحدى عبقريته وهباته الخلاقة، وقد يبدو ضرباً من المبالغة القول، ان اقل وآخر ما يمكن للانسان معرفته هو انسانيته، لكن الامر عند التبحر المتأني قد يكون اكثر وضوحاً وصدقاً. فالانسانية هنا لا تعني النمط المألوف لنا من البشر بفكرهم وعاداتهم وفضائلهم وتاريخهم بل والاصناف الاخرى غير المحدودة التي تتوزع على ارجاء المعمورة، ومن المؤكد ان ما يعرفه الفرد عن ثقافة شعبه وامته لا يمثل الا جزءاً يسيراً في الكون الانساني الذي يتألف من آلاف الثقافات والشعوب والامم التي تختلف عنها في كثير او قليل من قيمها وعاداتها ونواميسها الفكرية والمنطقية ولغاتها وآدابها ونظمها الروحية والاسطورية.
وعلى هذا، فالآفاق الانسانية بالنسبة للعادي من البشر لا تتعدى دائرة الثقافة الاجتماعية التي ولدوا فيها وترعرعوا في ظل انساقها، الامر الذي يجعل حدودهم الفكرية حاجزاً يحول دون استيعاب كثير من نماذج الفكر والسلوك التي تجري في ثقافات العالم الاخرى، وقد يؤدي هذا الحاجز الى رفض تلك النماذج الغربية واستهجانها احياناً، ويصل تناقض الثقافات الانسانية في الحالات المتطرفة، حداً تكون معه الممارسات والعادات المفضلة والمستحبة في بعضها مرفوضوة ومقرفة في غيرها، لكن كثيراً من النقاط المشتركة والمتماثلة لمدى الامم والشعوب، قد تظل مجهولة لدى الآخرين خارج حدود ثقافتها بسبب الحاجز اللغوي الذي يحول دون تواصل هذه الثقافات لتحديد قواسمها المشتركة التي لو عرفت لاسهمت في تقريب المسافات الفكرية والنفسية بينها.
لقد نجح علماء الانسان (الانثروبولوجيين) عبر اكثر من قرن ونصف، في تسليط الضوء على معظم ثقافات وشعوب العالم في قاراته الخمسة ومجموعات الجزر المتناثرة في بحاره ومحيطاته، وبهذا استطاعوا توسيع رؤيتنا الانسانية قليلاً او كثيراً لمختلف الظواهر المرتبطة بحياة البشر خارج حدودنا الثقافية والاجتماعية.
لكن ازدهار علم الانسان وانتشار اقسامه العلمية في معظم جامعات العالم وتدفق مطبوعاته وتزايد دورياته المتخصصة في لغات العالم الحية وتزايد عدد متخصصية، لم تنه الازمة الانسانية في عالمنا المعاصر خصوصاً ما يتصل منها بالجهل الثقافي وضيق الافاق الفكرية وما يتبع ذلك من تعصب في مختلف صوره واشكاله في كثير من الثقافات والمجتمعات.
ومما يثير الدهشة حقاً، ان الاسباب التي يختارها المتخصصون والباحثون لتفسير مشكلات العالم المختلفة، نادراً ما تسمى البعد الفكري الثقافي. فالاسباب في نظرهم لا تتعدى الكساد والبطالة وسوء الادارة وتعثر التخطيط وضعف وسائل الاتصال والمواصلات الحديثة وتلوث البيئية وسوء التغذية وانتشار الاوبئة وغيرها من العوامل التي تسهل تشخيصها والتي ترتبط بشكل او بآخر بأنماط ثقافات سائدة في عالمنا، وماتمليه من ميول سلوكية وفكرية وتفرضه من تقاليد.
ان دور الفكر الثقافي الانساني ليس جديداً، فقد برز في جهود بعض رواد الفكر العربي من امثال ابن بطوطة الذي جاب انحاء العالم بحثاً عن صور الحياة الانسانية لدى مختلف الشعوب دون القبوع في اقبية الاعراف المحلية والاكتفاء بوصف الثقافة الامم.
وابن خلدون هو الآخر لم يكن قصده البعيد توضيح الشخصية البدوية وانماط الثقافة التي تؤطرها وتشكلها، بل طبيعة الحياة الانسانية كما تمليها ضرورات الواقع الثقافي والبيئي، وهذا ما جعله مفكراً انسانياً عالمياً يستأثر باحترام جميع الامم ويهتدي بنظرياته وعمق بصيرته العلمية كبار العلماء في الشرق والغرب.
ويكاد ينطبق الدور الفكري الانساني العالمي على اعمال ابن سينا وابن طفيل وابن رشد والفارابي والتوحيدي والجاحظ وابن فضلان، وان اختلفت درجات شهرتهم فهم جميعاً استطاعوا الغور في اعماق الانسانية من منظوراتها الثقافية والنفسية والاجتماعية المختلفة وغير المقيدة بحدود ثقافتهم.
ان ما كتبه هؤلاء وامثالهم من قدامى الاعلام يكاد يفرغ في معضلة الطبيعة البشرية التي اصبحت الشغل الشاغل لعلوم هذا العصر السلوكية والانسانية والطريف ان هذه العلوم لا تبدي الآن ذات الحماس الذي اظهرته في النصف الاول من القرن الماضي لبحث هذه المعضلة بل صارت تتراجع عنها لتركز اهتمامها الاكبر في ظواهر اجتماعية ونفسية جزئية ومحلية على الاكثر.
وهكذا، ما تزال ازمة الفكر الثقافي الانساني تلاحق الانسان المعاصر على الرغم من تقدم العلوم الصرف والهندسية والطبية والصناعية وارتقاء وسائل التقنية المتطورة، فنحن اليوم نشاهد اخبار العالم واحداثه على شاشة التلفزيون، لكن ما نفهمه منها يكاد يقتصر على الظاهر فقط كالزلزال والبراكين والعواصف والفيضانات المدمرة او تلوث الهواء بنفايات المصانع او ظاهرة الجفاف والتصحر وسقوط الطائرات وحرائق الغابات.
غير ان الاحداث العالمية المرتبطة بالعوامل الثقافية والفكرية وهي لا تحظى بكثير من اهتمام الاعلام العالمي تبدو مبهمة للمشاهدين، لان فهمها لا يعتمد على معرفة قوانين الطبيعة الفيزياوية او العوامل التكنولوجية بقدر اعتماده على فهم الطبيعة الثقافية الفكرية لسكان المناطق التي تقع فيها.
الخلاصة، ان مستقبل الانسان لن يكون اكثر اشراقاً من حاضره ما لم تتسع افاقه الفكرية الانسانية كما اتسعت افاقه العلمية والتكنولوجية.
[email protected]