23 ديسمبر، 2024 7:00 م

مرة واحدة في حياتي جمعتني به مع أصدقاء آخرين طاولة مشتركة في نادي الأدباء ، كان ذلك قبل سنوات مضت ، في تلك الجلسة شعرت بحزن عميق يحتل ملامح وجهه الأشبه بثمرة تفّاح قطفت قبل نضوجها ، أجل كان حزنه أخضر ، لم يتكلم الاّ قليلا ، اذ ان الدواعش احتلوا تكريت ومن ضمنها منزله الذي أصبح نهباً لهم في ذلك الوقت ، لكنه في لحظة صمت رفع كأسه نخب ” أبو الهيل ” وهو شخصية وردت في روايتي حياة باسلة عن جندي عبثي ومرح لفظ أنفاسه في صحراء الكويت نتيجة شظية أصابت رأسه من قصف طائرة أمريكية ، كان صديقي الطبيب قد تأثر بشخصية ” أبي الهيل” كثيرا ، وطالما ذكرها بالرسائل التي كانت تصلني منه على بريد الفيس بوك ، غير ان الذي لم يفطن اليه ، هو شخصيته الزاخرة بالإنسانية والتي تضاهي شخصية ” أبو الهيل ” أضعافا بنبلها وشجاعتها ، وأعني صديقي الطبيب الذي عالج مئات الجنود الجرحى خلال الحروب التي حدثت في وطني ، وخلال سنوات الحصار كنت أراه بين حين وآخر اثناء زيارتي لجريدة الجمهورية يجلس مع الشاعرين رعد عبد القادر وعبد الزهرة زكي ، في كافتريا الجريدة ، كان يرتدي ملابسه العسكرية الأنيقة ورتبة عقيد توشّح كتفيه على ما أتذكر مع حرصه على إرتداء سدارة جذابة على خلاف الضباط الآخرين الذين يضعون ” بيرية ” على رؤوسهم ، لم أكن اعرف حينها انه طبيب بمشفى الرشيد العسكري ، وكنت القي تحية إعجاب عليه وأختفي عن أنظاره ، توطّدت علاقتي به بعد مطالعتة لكتابي ضماد ميدان لذاكرة جريحة ، الذي يتحدث عن مواجع ومخاوف جندي خلال حرب الخليج الثانية ، لكن الغريب ان الكثير من أصدقائه لم ينتبهوا لعذوبة روح هذا الطبيب الإستثنائي ، فهو يكتب الشعر والرواية وناشط سياسي ويعزف بمهارة على آلة العود وقدّم إلحونات ناجحة لبعض المطربين المعروفين ، أضف الى علاجه لجنود جرحى أصيبت وجوههم بجراح بالغة ، فهو طبيب جرّاح يختص بكل ما يتعلق بالوجه ، كما ان فضائيات عراقية إستضافته للحديث عن أحلام المتظاهرين وكشف بشجاعة عن فساد ساسة هذا الوقت الذين احترفوا السرقة بشكل مفزع ، لكن الذي إستوقفني ما بدأ ينشره صديقي الطبيب على صفحته بالفيس بوك ، مرة نشر صورة لكرسي محترق وسط حديقة متفحمة بمنزله في تكريت بعد تحريرها من الدواعش ، ذلك الكرسي الذي كان يجلس عليه وسط حديقة منزله ليطالع كتابا او يتأمل عصفورا يسقسق بحرقة لأنه أضاع عصفورته وسط دخان الحرب ، ثم نشر رسالة من أسير ايراني ارسلها اليه ، يشكره فيها لأنه أشرف على علاجه بعد تهشم فكّه أثناء حادث عرضي في أقفاص الأسر ، وقبل أيام اخذ ينشر صورا لجنود جرحى خضعوا لعمليات جراحية معقّدة من قبله في مشفى تكريت الميداني ، وعلمنا انه يقوم بهذه العمليات الجراحية مجانا كدعم معنوي للشجعان الذين يقارعون الدواعش ، صديقي الطبيب برغم إحتراق منزله في تكريت ونهب أثاثه ومكتبته ، وبرغم تشتت عائلته في المهاجر لم يركن الى القنوط واليأس ، وكان من طلائع الذين وصلوا الى تكريت بعد تحريرها ، وهاهو يعمل دون كلل في مشفى تكريت الميداني ، وينتهز أوقات الراحة لإلقاء محاضرات طبية توجيهية على مجموعة أطباء يرافقونه بمهمته الإنسانية هناك وسط غابة بارود ونار ، هذا الطبيب الوسيم الذي يعرفه الوسط الثقافي والأدبي أصدر كتابا شعريا بعنوان بلاغ رقم أسكت وهو إدانة واضحة للديكتاتورية والحروب الدامية وآخر بعنوان حجارة يبوس ، أضف الى روايته الحميمة مراثي غيلان ، لقد حرصت ان يكون مقالي عنه بهذا الإسبوع ، فهو لـُـقية نادرة تكشف عن معدن العراقيين الثمين وأصالتهم وعشقهم المجنون لوطنهم العراق ، برغم الويلات التي شهدوها منه ، صديقي الطبيب مازال يمسك بمبضع الجراحة في مشفى تكريت الميدانية لعلاج جرحى المعارك ، ويمسك بيده الأخرى قلم إبداعه ، وياله من سحر ان يجتمع جنون الأدب مع الحس الإنساني في قلب واحد ، فصديقي هذا يشبه حمامة تهدل بالأمل وسط هذا الخراب الذي يحيطنا من كل حدب وصوب .. ترى هل ان قبلة إعجاب أزرعها على جبينه المضيء كافية حتى تشاطر جهده الإنساني المدهش ؟ الجواب كلا قطعا ، فالطبيب سعد الصالحي تفوّق علينا جميعا بنكران ذاته وإنسانيته ومهنته النبيلة التي تنقذ بين شهقة وأخرى احد الجنود الجرحى من كهف الموت ، يقول صديقي الطبيب عن رسالة الأسير الإيراني حسين نو شهري .. هي أعلى وأرفع شهادة طبية اعتز بها مُنحت لي من قبل أسير ايراني قمت بعلاج تقويم كسر عظم وجنته الأيمن ، طوبى لك صديقي الطبيب سعد وهنيئا للعراق بإنسان نادر مثلك .. فخسوف هذا الزمان الرث لايمتّ اليك بشيء ، والأساطير العراقية لم تخبو فهي ماثلة فيك ، ايها القمر الغيلاني الذي يزداد لمعانا كلما أحاطت به الفواجع والمراثي . [email protected]