لايحجب الليل الرؤيا فحسب بل يمتد سكونه اللامتناهي في مداعبة المشاعر ، تارة يهيج الكوامن منها ، وتارة يجعلها تفغو على بساط الذكريات ، وفي كلا الحالتين تكون العواقب صعبة التحمل وشديدة الوقع على النفس البشرية .. فما زالت نوافذ العمر مشرعة على مصارعها تنتظر المرور لهمسات العيون المثقلة بأحلام ثقال .. فكل همسة من تلك الهمسات تحكي روايات مبهمة المعالم ، فما بين هذه وتلك تتمايل الأرواح ذات اليمين وذات الشمال بحثا عن طمأنينة قد تكون مختبئة هنا أو هناك .
الليل هو هو دائما يأتي في موعده المعتاد دون تأخير مبرهنا أنه الأوفى بين كل الأوفياء الذين نعرفهم ، وبكل مساحة يحل بها يجلب معه ضيفا من القلق المصحوب بالترقب القاتل .. أنه موعد غريب لم نعرفه سابقا ، حيثم تم كل شئ بشكل مفاجئ للغاية ، السكون يلقي بضلاله على الذين يرتقبون أحداثا قد تحمل معها مايسرهم ولو لبرهة لاتكاد تبين .
وهناك النائمون المتراصون مع أحلام لن تبارحهم مهما حاولوا التملص منها لكن الأقدار تجري معهم كرهوان يسابق الريح .. قد تكون المفاجأة القادمة محسوبا حسابها إلا في حالات نادرة الحصول .. ومنهم سهارى لايعرفون للنوم طعما ولا لونا ولا رائحة .. منهم المتهجدون العابدون الحامدون ، ومنهم السهرانون نتيجة لمخمصة غرست مخالبها بين الجوانح المثقلة بالألم المضاف . ومنهم العاشقون المبعدون عن ديارهم قسرا نتيجة لـ ( عدل ) السلطان في إبعادهم عمن يحبون ..
كل أمر من تلك قد يسبب طفوحا في المكاييل ، فيهرق الدم المصحوب بالمرارة والشجون ! .. ليتنا ندرك أن الأعمار فانية في يوم ما ، قد نراه بعيدا لكنه أقرب إلينا مما نتصور أو يتصور معنا العلم الحديث ، فالأجل محتوم القوام مرسوم على جبين كل إبن أنثى .. آآآآآآآآآآآه أيتها الأحداث كم أنت قاسية لاتراعين ضعفا فينا ولا قوة .. الضعيف مهتوك القوى ، والقوي لابد أن يلين يوما ما فيذوي كطير كسرت جناحاه في يوم عاصف .. وسواد الليل الذي يشبه الأثمد مازال يخيم في الأرجاء .. أظنه سيزول حين يتسور الطير محراب الجدار المفقود لينشر جناحيه بحثا عن دوي مجهول وسط زحام السكون المميت ! .. كل تلك الأحداث جرت ومر ذكرها عبر مكبرات الصوت الصدئة وما زالت المرأة الصغيرة تنتظر قرب النافذة المغلقة بالمزلاج دون أن يرتد لها طرف .. مالذي تبحث عنه تلك الصغيرة ياترى ؟ أنها تنتظر خبرا قد يأتي بأية لحظة فيرسم تباشير الفرح على شفتين أصابهما الإصفرار نتيجة إنعدام الشهية على الرغم من توفر بعض الحبوب وقطع السكر ذات اللون البني ! .. لكن الشهية أصابها الضمور لأن النصف الآخر مازال غائبا رغما عنها ..
.. ويستمر الليل بالتباطؤ الغريب دون أن تتلقى المرأة الصغيرة الجميلة خبرا كانت تنتظره بفارغ الصبر .. وكلما نظرت الى عقارب الساعة لن تراهما إلا متعانقين بشكل مذهل وكأنهما يرفضان الإبتعاد عن بعضهما !! .. رحماك أيها الوقت فقد أنهكني طول السهر هلا جئتني بذلك النبأ اليقين ؟ .. في وقت لاحق حصل تغيير في سماء المكان ، إكتظت السماء بالغيوم السود ، وتعالت أصوات الطيور بشكل غير مسبوق ، وأخذ القلق يعود من جديد ، وترك كل خل خله دون توديع ومن غير كلام مفهوم .. ترى ماذا يجري بالضبط ؟ هل ستطبق السماء على الأرض ؟ أم أن الأرض ستميد بنا وتخر الجبال هدا نتيجة لأمر جلل ؟ لا أظن ذلك ! هناك علامات لقيام الساعة لم نرها لحد الآن ! هناك الدجال ونزول إبن مريم ، والدابة ،
وطلوع الشمس من مغربها !! .. صحيح أن الفتن نزلت بساحاتنا وتشبهت النساء بالرجال والرجال بالنساء ، صحيح أن الخمور شُربت ، وظهر الفساد في البر والبحر ، لكن الله غفور ودود لطيف بنا .. ترى مالذي يجري .. أين هاجرت الطيور .. ولماذا كل هذا السكون المطبق ؟
تأخرت الإجابات جدا .. قام أحد الصيادين بحمل قوسه ليقتل الطيور التي غادرت أعشاشها دون إذن منه ! .. سدد الرمية الأولى فأخطأت هدفها ، وضل السهم طريقه فانحاز الى النافذة الموصدة حيث تجلس تلك المرأة الصغيرة الجميلة .. تهشم زجاج النافذة فسمح للريح أن تعوي داخل الغرفة ومنها الى خزانة الملابس المهترئة .. تناثرت الأشلاء فغطت المكان بألوان شاحبة .. في تلك الأثناء تطايرت بعض الذكريات المخزونة في ورق يشبه القصب المعقوف فحط البعض منها في حجر المرأة .. دهشت وهي ترى هذه الذكرى المفقودة ، وراحت تنزف دمعا من محاجر أتلفها السهر القديم ! أينك أيها النصف الآخر ؟ أما شبعت من طول الغياب ؟ لماذا تتركني وسط عاديات وموريات تعصف بقلبي ؟ كم أنت مؤلم أيها النصف الآخر حين تبتعد بلا مقدمات .. كان الكلام مدويا مع الريح العاوية كعواء ذئب جائع . ولكن لم يسمعه أحد .. عادت المرأة الصغيرة الجميلة الى مكانها قرب النافذة وما زالت تنتظر نفس النبأ .. عسى أن يكون يقينا هذه المرة !!
مر الليل بطوله دون أن يغادر المكان . وعقارب الساعة أفترقت عن بعضها البعض ، وتراءت شمس الحقيقة من جهة الشرق هذه المرة ! ولم تبخل بنورها عن المحتاجين اليه .. عادت بعض الطيور الى أعشاشها لكنها وجدتها قد نهبت من لدن الغربان الحمر ! تهيأت لبناء أعشاش غيرها وهي تردد : الحمد لله الحمد لله .. سرقونا فعفونا عنهم ، ليتهم يكفون الأذى عنا ويرقبون فينا ذمة معلومة .. إزدهرت بعض الأزهار فأرسلت بأريجها الى النافذة المحطمة . فعاد كل شئ الى وضعه الصحيح من قبل العدوان !! .. هناك في الأفق لاحت سحابة من تراب بلون الارض ! تحمل بين طياتها خبرا متأخرا للغاية .. جاء ساعي البريد عبر تلك السحابة ومعه رسالة يقول فيها ذلك النصف : حبيبتي لاتنتظري أمام النافذة أكثر من الوقت المقترح لبني البشر ، ها أنذا جئت محملا بأطنان من الشوق والشبق اليك .. أنظري وراءك ماذا ترين ؟ لم تصدق المرأة الصغيرة أنها وجدت نصفها يحمل باقة من الورد المعطر بكحل الليل وطعم الحناء ! أقتربت منه ثم نظرت اليه مليا ، قطوقته بذراعين مرتجفتين وحاولت أن تسحبه صوبها ، لكنها لم تجد سوى نفس الحلم المكرر منذ سنين .. الذي أردت أن أوصله لأصحاب النهى المعافين منهم والمعاقين هو أننا نحلم بزوال الغمام الاسود عن ارض الرافدين .. وتلك قصة حقيقية بطلها إمرأة عراقية نشمية إسمها ( حنان ) وهي فعلا أسم على مسمى ، راودها عن نفسها أولئك الذين يهتفون عاليا يالثارات فلان وفلان !! وحين عجزوا عن تحقيق غايتهم لن يبخلوا بسفك دمها حينما كانت تناجي ربها وتسأله الشهادة من قبل أن تتعرض للإغتصاب أو يمس ضفائرها أحد من ( المؤمنين ) .. تحروا ايها الكتاب عن مواضيع مماثلة وإبتعدوا عن سفاسف الأمور وسفسطة الكلام الفارغ .. إنها الموصل التي مازلت تحترق وتحترق حسب أوامر نعرف من أين تأتي ، نعرف المنفذين لها كما نعرف أنفسنا .. لكننا صامتون جبناء نترك المقص يفعل فعلته بأشياء لن تعجبنا أو تسبب الحرج لغيرنا .. أتعرفون لماذا ؟ سأخبركم دون تردد : لأن فلان الفلاني حمار بأمتياز ، والوقت الحالي هو وقته ، فمن غير الجائز أن ترد على حمار أنكر الله صوته على الرغم من أنه – سبحانه – هو من خلقه وخلق صوته ! فمن منكم ياترى سيكون كأبي جهل ، ومن سيكون كالحمزة ؟ ..