عبث أحدهم بمقدرات مدينة الـ “رمادي” فبعثر أحرف هذه الكلمة ومن ثم جمعها فأسقط حرف “الياء” متعمداً فتحولت بلمسة قلم كلمة رمادي إلى “رماد” وراقَ له وقع الكلمة فحولها إلى حقيقة واقعة.الكثير منا يجهل تاريخ المدن بسبب كثرتها، لكن لا أحد يجهل تاريخ مدينة الرمادي -مركز محافظة الأنبار- الذي يتلخص بالماضي الجميل والحاضر المؤلم والمستقبل المجهول.
تأسست مدينة الرمادي في عهد الوالي العثماني مدحت باشا عام 1866م، وتتميز الرمادي عن غيرها من المدن بتسميتها المميزة التي لم يختلف التاريخ عليها إطلاقاً، ولدت التسمية نسبة إلى كثرة الرماد التي تخلفه نيران المواقد المشتعلة في مضايف أهلها وهي تستقبل الزائرين إلى المدينة باستمرار، في الوقت الذي يفتخر أهلها أنها المدينة الوحيدة في العراق التي لا يوجد فيها فندق حيث اعتاد أهلها على استقبال الزائرين في مضايفهم التي تعتبر جزءاً مهم من منازلهم الخاصة.
سقطت مدينة الرمادي بيد تنظيم داعش بعد أكثر من 17 شهراً من صمود أبنائها بوجه التنظيم، حيث قلب التنظيم وخلال ساعات قليلة المعادلة في الرمادي لصالحه، إثر هجوم عنيف شنه بسيارات مفخخة ومسلحين تسللوا بزوارق عن طريق نهر الفرات، صباح يوم الأحد الموافق السابع عشر من شهر مايو/أيار عام 2015، أكثر من عام ونصف على المعارك المسلحة داخل مدينة الرمادي استنزفت العديد من المقاتلين والأسلحة وفي المحصلة يستولي تنظيم داعش على أهم مدينة في العراق والتي تشكل نحو ثلث مساحته.
تحرير مدينة الرمادي بعد سقوطها بيد تنظيم داعش للفترة من يوم الأحد 17/5/2015 إلى غاية يوم الاثنين 28/12/2015 وهو تاريخ إعلان الحكومة العراقية عن تحريرها للمدينة بالكامل، فاستبشر أهل المدينة خيراً بالعودة إلى مدينتهم تاركين خلفهم ذكريات التهجير والنزوح المرة، والبالغ عددهم نحو 500 ألف نسمة، جميع قادة القوات المشتركين بالعملية العسكرية أعلنوا أن مدينة الرمادي يسيطر عليها أقل من 350 مسلحاً من تنظيم داعش وغالبيتهم من العرب وليس العراقيين، والقوات المشاركة في عملية تحرير الرمادي تجاوزت الـ60 ألف مقاتل بما فيهم الجيش العراقي والشرطة المحلية وأبناء العشائر بالإضافة إلى الفرقة المجولقة الأميركية، وبلغ عدد غارات التحالف الدولي على مدينة الرمادي منذ سقوطها بيد تنظيم داعش إلى غاية تحريرها 11894 غارة جوية، بعد كل هذه الأرقام التي تم ذكرها وهذه الأرقام رسمية ولست مسؤولاً عنها، فماذا تتوقعون أن يصبح بهذه المدينة؟ الرمادي تتفوق على كوباني بحجم الدمار.. الرمادي باتت أكثر دماراً من كوباني، فالصور الواردة تتحدث عن هيروشيما مرعبة قضت على كل شكل من أشكال الحياة في المدينة.
بعد المشاهد التي انتشرت تبين أنه لا يوجد رابح في ملحمة تحرير الرمادي، وأن الخاسر هم أهالي الرمادي، وإن تحررت مدينتهم، وأيضاً الخاسر الثاني الحكومة العراقية، فالمدينة أصبحت رماداً تذره الرياح وتتطلب إعادتها إلى الحياة مليارات الدولارات في ظل العجز المالي الحاد الذي يعاني منه العراق، حيث تحولت المسافة بين طابق وآخر في المباني والمنازل إلى مجرد طبقة رقيقة من التراب.
منذ أكثر من شهرين من معركة التحرير والحركة في مدينة الرمادي إن وجدت لا تكون إلا من قبل قوات الأمن، المدينة خالية من سكانها الذين كان عددهم ذات يوم نحو نصف مليون نسمة فرّ جميعهم من جحيم داعش ويقيمون الآن في مخيمات كلاجئين، ومنازلهم أصبحت كالهشيم.بلغت عدد الوحدات السكنية المدمرة بالكامل أكثر من 8 آلاف وحدة سكنية كما تعرضت آلاف الوحدات السكنية لأضرار متفاوتة، أما بخصوص المشاريع، من ماء وكهرباء ومجارٍ وبنى تحتية وجسور وطرق خارجية وداخلية وفرعية ومنشآت حكومية ومستشفيات ومدارس، وشبكات الاتصالات فقد دمرت بشكل كامل بسبب العمليات العسكرية والإرهابية، بحسب الإحصاء الأوليّ لحجم الدمار الذي أعلن عنه عدد من مسؤولي مدينة الرمادي..لمن أذاً الانتصار في عملية تحرير الرمادي؟
الرابح الوحيد من تحرير مدينة الرمادي هو التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، إذ تمكنت أميركا من تقليص دور إيران وتقويض تحالفها مع روسيا، وعدم إعطاء دور للمليشيات التي تدعمها إيران، باختصار إن تحرير الرمادي شكل انتصاراً إستراتيجيّاً لأميركا والتحالف الدولي لا أكثر.وإذا كان سبب تسمية الرمادي في الماضي نسبة إلى الرماد الذي تخلفه نيران المواقد التي ترحب بالضيوف القادمين إليها، فإنها الآن تُنسب إلى ما خلّفته ألغام تنظيم داعش ومدافع الجيش وغارات التحالف الدولي.