يعتقد الكثير من الباحثين والذين تأثروا غالباً بمقولات الفكر الديمقراطي نمطياً, أن الديمقراطية هي نتاج دولة المواطنة , وبالتالي فالمواطنة هي نتاج الديمقراطية وتجسيدها الاجتماعي – السياسي , وأن الديمقراطية تبعاً لذلك هي اعادة انتاج لتلك المواطنة وذلك التجسيد المتمثل في المجتمع السياسي للنظام الديمقراطي , الا ان المنهج السيوسيولوجي لا يتفق مع هذه المقولة , ذلك أن الفكرة لا تعيش ولا تزهر أو تثمر خارج وعائها , بكلمة أخرى أن الديمقراطية لا تنشئ مجتمعاً ابتداءاً, وأنما المجتمع هو من ينتج ديمقراطيته وملحقاتها من مواطنة ونظام , متى ما توافر على شروطها الموضوعية .
من هذا المنطلق يأتي التوصيف السوسيولوجي لموضوعنا , فالمجتمع العراقي في ماضيه وحاضره , الرافديني , العربي , الاسلامي , وبتمظهراته الايدلوجية الحديثة والمعاصرة , “علمانية , يسارية , اسلامية ..الخ” , ومجتمعات أخرى من ذات الطراز , تظل في جوهرها وماهيتها تستبطن في مكنونها الذاتي مجتمع الأب , الامر الذي لا يعد أكتشافاً , فالمجتمع الابوي مقولة ونظرية وجدت في الفكر والسياسة , لاسيما ما يختص بمجتمعاتنا العربية أو الاسلامية , الا ان الظاهرة العراقية هي من يسعى المقال لأكتشافها في أطار مقولة المصالحة وسياقها الديمقراطي المطروح على الساحة العراقية, أو في اطار النموذج العراقي الانتقالي .
أن الاب كما أراه هو تراث ورمز الجماعه , أكانت قبيلة , أو طائفة , أو أثنيه , وهو ما يخطئ في قرائته العديد من الباحثين أو المهتمين بالشأن الاجتماعي أوالسياسي , الذين ينطلقون في دراسة الجماعات من منطلق خصائصها وسماتها المتمثلة في توصيفها الذاتي , من حيث هي قبيلة , أو طائفة , أو أثنية ..ألخ , لا من حيث هي جماعة أبوية في جوهرها العميق, جماعة ذلك ألاب , لاسيما العربي أوالعراقي , ألاب الذي هو رب الأسرة أو الجماعة , الربوبية الاجتماعية , التي تتماهى مع الربوبية أو الابوية الاعلى , وبالاستعارة المجازية , الاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه , وأقصد تحديداً أبوية الاعراف والتقاليد والقيم , بقول واحد ” القداسة الاجتماعية ” , ذلك الاب الحاكم بسلطة ( الاطعام والجلد ) أو ( السيف والماعون ) , وهي سلطة قائمة على بنيه ذهنية , ومركبات نفسية تامة التساند والاستقرار, تكرس سيطرتها, وتعمل على تجريد المواقف المختلفة من أية شرعية, وتنفي وجود أي نوع من المعرفة الا معرفتها , الامر الذي استمرت الانظمة المتعاقبة في العراق منذ نشوء الدولة الحديثة – بأختلاف توجهاتها – على اعادة انتاجه بصور مختلفة تدعيماً لشرعية الحاكم وسلطته, , رغم ان الدولة التي تعمل في اطارها هي مشروع حداثي للمجتمع , وهذا هو جوهر الازمة اليوم , أزمة الحداثة أو الانتقال بتعبير أدق, حين ينازع سلطة الاب , وصي او راعي جديد من عالم اخر , عالم لا أبوي ولا جماعاتي , فالديمقراطية هذا الانموذج السياسي بمشتملاته الاجتماعيه والثقافية , هي نموذج لسلطة من نوع اخر , تنقض تلك الابوة/ السلطة المهيمنة والحاكمة .
اذن فالمصالحة , والمصالحة الديمقراطية تحديداً , تقتضي منا اول ما تقتضي أن نعيد النظر بأبائنا الاجتماعيين , لا البايولوجيين , وبالسلطة الناشئة عن تلك البنيه , وهي سلطة يصفها هشام شرابي بأنها سلطة النظام البطركي التي لا تتغير حتى لو تغير نظام الحكم بطريقة ما, ذلك ان البنية الاجتماعية تبقى كما هي .
أن دراسات الانثروبولوجيا السياسية تتناول علاقة أنساق القرابة بالسلطة , وفي الوقت الذي تقر فيه بأن نظام القرابة يتنافى نظرياُ مع النظام السياسي , فألاول ينظم وضع المجتمع , والثاني ينظم وضع الدولة , الا أن تلك الدراسات وجدت أن هذه الثنائية تتحد عملياً في مجتمع البنية الكلية الواحدة , بتعبير علمي أدق ” المجتمعات ضعيفة التمايز ” , عندما تتماهى الدولة مع العائلة , والحاكم مع الاب , لاسيما اذا ما اقترن ذلك بالقداسة الرمزية .
أن طريقة الانتساب الى المتحد السياسي في سياق ماتقدم انفاُ , وفي مجتمعات من ذات الطراز , تمثل أنتماءاً سلالياً لجهة الأب – في مجتمعاتنا – , وتتحكم اساساً بالمواطنية , التي ستنقسم الى درجات ومراتب وفقاً لمكانتها السلالية أو الأعتبارية من ذلك الأب , لتتطور في مستوى اعلى من ترابط البنية النسبية مع البنية الاقليمية “الجهوية-الارض”, لتشكلان البنية السياسية في ذلك المجتمع , وفي مستوى ما بينهما تتداخل القرابة بالاقتصادي والسياسي , مما يؤدي الى مضاعفة معايير التمايز ” المكانة والتراتب ” على اساس الوصول الى الموارد الاستراتيجية للمجتمع والدولة , لينشئ ما يعرف بالنظام الزبائني , القائم على نمط علائقي مفاده بأختصار مقايضة الولاء السياسي بالمنافع المالية او المنصب أو الوجاهة .
أذن فالبنيه الابوية تخلق مجتمعات لا مساواتية, ذات سمة تجزيئية , و طابع واحدي , شديد التمركز , تنفي أي شرعية مختلفة , وذات ثقافة توكيدية – صيانية , وبالتالي الطابع اللاحواري , الذي لايؤمن بالخيار الفردي الحر , هذا النموذج اللامتصالح مع ذاته , لا يمكن أن ينتج نموذجاً تصالحياً مع الاخر , ناهيك عن ان ينتج مجتمعاً تصالحياً , الا من خلال اعادة النظر في نموذجه الابوي الحاكم كما تقدم .
عليه فأن مشروع الانتقال الديمقراطي العراقي بمقتضياته وفي مقدمتها المصالحة الديمقراطية مدخلاً للمصالحة الوطنية تتطلب أب غير هوياتي, لا يفرض علينا هويته الجماعاتية , ومنطقها السلطوي, وبنيتها الاجتماعية , الا ان هذا المطلب لا يجب ان يكون مثالياً , اي تحت منطلق لا أفراط ولاتفريط , او عدم القفز الى الامام , بمعنى ان لا نطلب النقيض من حيث هو مثال متعال في التجريد , اي الاب الحداثي , الاب الذاتي , الفردانية الاجتماعية , فهو أمر بعيد المنال وغير واقعي , وهو على اية حالٍ نفي لقواعد العلم الاجتماعي , أنما أن ننشأ نموذجنا الخاص , وهو أب حداثي مرتبط بالتاريخ , فنخرج من أقبية التاريخ والجغرافية العراقية التنابذية القسرية التي نرزح فيها منذ قرون الى تاريخ وجغرافيا التعايش والعراق المتصالح ديمقراطياً مع ذاته ومع الاخر , ذلك أن المصالحه العراقية ترتبط بالمصالحه مع الاخر الوطني والاخر غير الوطني , الاخر الاجتماعي والجغرافي في نطاقه الجماعاتي الاقليمي , متى ما تأسست الجماعه الوطنية العراقية , على انقاض الجماعات النسبية – الجهوية العراقية .