17 نوفمبر، 2024 3:34 م
Search
Close this search box.

ثنائية الموت والحياة

ثنائية الموت والحياة

العنوان: موت بحكم الحياة
النقد : الأستاذة انتصار كمون الرباعي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقدمة :
لمَّا كان سرد الأحداث ونقلها باستعمال اللغة أو التصوير أو غيرها من وسائل التعبير محمولا بالوصف والحوار وغيرهما… فلا بدَّ أن يتوافر في النص السردي سلسلة من الأحداث المرتبة زمنيا تعاقبيا أو ترتيبا سببيا منطقيا، بحيث لاتكون الوقائع معزولة بعضها عن بعض. وحتى تكون تلك التغيرات أو التحولات فيما تقوم به الشخصيات من أحداث متناسقة لا بدَّ من استجلاء وحدة المبنى والمعنى . القصة القصيرة لا يمكنها أن تكون إلا ذاتها، أي نوعها النصي، وإلا تحولت إلى نمط تعبيري آخر مجاورٍ، يحتاج إلى تجنيس دقيق وإلى تسمية أخرى، ومن ثمة إلى معايير محددة لنوعه، لا يمكن الحديث عن تداخل الأنواع إلا في حال معرفة الحدود المميزة لكل نوع على حدة، وهذا منطلق الحديث عن مهارة القاص وثقافته القصصية والسردية وقصديته أولا وأخيرا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أوَّلا البيئة :
يعتبر الواقع الملهم الأول للأدباء و الفنّانين عموما فمنه ينطلقون و اليه يعودون و مهما حاول الأديب أن يبتعد عن واقعه باستعمال الرمز أو التحليق في فضاء الخيال فانه لا يتمكَّن من الانفصال تماما عن ذاك الواقع الذي نراه ينبعث من ثنايا الأسطر و أرجاء النص .
والأقصوصة ـ باعتبارها جنسا أدبيا مخصوصا ـ قد جعلت من الواقع مسرحا لأحداثها و من شخصياته نماذج اجتماعية فيها ..
و هكذا كانت مهمة الأدباء الواقعيين تبدو صعبة لأنهم مطالبون بالجمع بين الدقة و الفن و الحقيقة و الأدب و المحاكاة و الابتكار حتى يخرج الواقع المألوف في صورة فنية ابداعية متميزة ..
و هكذا كان الشأن عند رواد القصة القصيرة العربية أمثال محمود تيمور و يوسف ادريس و لنا في القصة القصيرة للكاتبة السورية عبير يحيى دليل على حضور الواقع في جانب منه حضورا واضحا صريحا بدافع تعريته و نقده و رغبة في التجاوز و الاصلاح و سنحاول أن نجعل لقراءتنا هذه نبراسا سيكون منطلقا من ثنائية الموت / الحياة ..
و مرتكزا نحاول البحث عنه في قصة : {موت بحكم االحياة}
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثانيا عتبة النص:
سأنطلق من العنوان باعتباره عتبة النص و بوابته الأولى و قد حمل هذا العنوان في طياته طباقا بين كلمتي موت و حياة تفصل بينهما عبارة _بحكم _و تلك لفظة تجعلنا في أجواء القضايا و المحاكم و العدل و الظلم و هي هنا تعني ( بمثابة) فكيف يتحول الموت الى حياة ؟
هل صار الموت رحلة بحث عن راحة أبدية و حياة بديلة ؟ هل بات الموت خلاصا من قسوة حياة ؟ و قد وردت كلمة موت نكرة هو موت في المطلق فهل هو الموت الحتمي الذي نعرفه والذي هو نهابه للحياة عادة؟ أم هو موت معنوي لمن فقد الاحساس بالحياة و معنى الوجود ؟انها حيرة وجودية تكمن في العنوان من خلا ل جمع بين نقيضين الموت من جهة و الحياة من جهة أخرى و قد وردت لفظة الحياة معرفة فهي اذن حياة الانسان في واقع نعرف تفاصيله و اذا نحن منذ العنوان أمام التقاء الأضداد و تساوي المتناقضات ليغدو الموت حياة وتصبح الحياة موتا فماهي تجليات كل تلك المعاني في النص باعتبار أن العنوان يورد معنى مجملا يجعله ذات النصّ مفصلا ؟
يقوم القص عموما على حضور لأنماط الكتابة الثلاث و نقصد بذلك السرد و الوصف و الحوار و سنحاول من خلال هذه القراءة لقصة الاديبة عبير يحيى_ موت بحكم الحياة _ ان ننظر في تلك المباني لنبلغ المعاني و المقاصد من هذا النص القصصي القصير…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ السرد / مقوماته لقد توفرت في هذه الاقصوصة باعتبارها نصا أدبيا بالأساس مقومات القص أو السرد و نعني بذلك الزمان و المكان و الشخصيات و الأحداث …
==================
أ_ الزمان:
ان الزمان في هذه الاقصوصة ليس محدّدا بدقة فقد كان زمانا خاصا بالأساس يتعلق بسيرة الشخصية و حياتها الذاتية مثل زمن اللقاء _او زمن الدراسة _ او زمن العرس الذي كان في (ربيع مزهر) انها جميعا أزمنة غير دقيقة و عدم الدقة يسير بنا نحو الاطلاق فالأحداث المسرودة يمكن أن تتكرر في كلّ الأزمنة و قد استعملت الكاتبة في تعاملها مع الزمن تقنية طيّ الأحداث او ما نسميه بالسرد المجمل وهي تقنية يفرضها حجم القصة القصيرة و قصر مدتها مثل القول ” مضى على اضرابي و سجني عشرة أيام ”
فالمجال في الاقصوصة لا يتسع لتفصيل ما ورد مجملا في العشرة أيام ..
==================
ب_ المكان :
تنقسم الأماكن عادة الى أماكن مغلقة و أخرى مفتوحة لكن المكان الذي وجدناه في هذه الاقصوصة كان مكانا مغلقا هو بمثابة سجن للبطلة و العمة و قد تكرر معجم السجن في القصة (سجن ـ سجين ـ سجّان ) وهو أيضا بمثابة كهف صرّحت بذلك الكاتبة هو كهف تعم فيه العتمة بشكليها المادي و المعنوي فهي عتمة عقلية تجسدت في شخصيتي الأم و ابنتها و هي عتمة مادية تجسدت في وجود البطلة بعد زواجها في طابق علوي ينتمي الى بيت الأب فليس هناك استقلال في المكان ..
هكذا يجعلنا المكان في فضاء عربي شرقي قروي ضيق ..
والاستقرار في مكان واحد يجعل القصة كمسرحية لا تتغير أماكنها أو تتغير نادرا و قد وجدنا أماكن عرضية كمكان اللقاء او الدراسة او العمل ليصل بنا السرد سريعا الى المكان الأساسي الذي حملته الكاتبة قضايا اجتماعية اسرية فيصبح بيت الزوج مقبرة للعروس و اذا بشبح الموت يلوح من عمق بيت لا روح فيه و لا حب و لا حياة و بمجرد ولوج البطلة ذاك المكان نسيت أحلامها و شهادتها الجامعية لقد سلبها المكان الحياة و جعلها تعيش تجربة الموت هكذا يتحد المكان _بيت الزوجية _ مع الزمان _بعد الزواج _ ليزجا المرأة في سجن _مؤبد _ او في مقبرة بعيدا عن الأحياء.
===================
ج _ الشخصيات:
نجد في الاقصوصة نوعين من الشخصيات:
شخصية رئيسية : هي البطلة هنا
و شخصيات فرعية : منها المساعد و هي العمة و الأخ _و منها المعرقل و هي الزوج و امه و اخته.
** الشخصية الرئيسية _هي امرأة جميلة متعلمة عاملة تنتمي الى مجتمع ريفي قروي و هي شخصية قصصية نامية فاعلة في الأحداث متحولة فهي لم تستسلم للسجن و الموت و انما بحثت لنفسها عن طريقة للخلاص..و قد تميزت بالجرأة و الشجاعة اذ تحدت بطش ام الزوج و أخته و ضعف شخصية الزوج و ما ارادتها مساعدة العمة الا شكل من اشكال التحدي الاجتماعي و رغبة في الخلاص الجماعي لا الفردي فقط ايمانا منها بضرورة التحرر و الانعتاق و أهم ما يميزالشخصية في هذه الاقصوصة تأرجحها بين ضميري ال_هي و الأنا فهي مرة(يحكمها) و اخرى( لمحتُ و لمستني) هنا تكمن لعبة الضمائر لتفرض تداخلا بين الساردة و الشخصية القصصية و هذا المزج يجعلنا نذهب الى امكانية اعتبارالسرد يحوي جنس السيرة ذاتية بما ان السيرة الذاتية هي بوح بكل ما كان مسكوتا عنه وما تأرجح الساردة بين الانا و الهي الا اشارة منها الى ان ما تعيشه البطلة ويمكن ان ينسحب على الانا و على كل امرأة شرقية..
نحن اذن ازاء سارد عليم مشارك في الأحداث بعيد عن الحياد و الموضوعية..
** الشخصيات الفرعية :
ــ شخصية العمة هي نموذج للمرأة المستسلمة لكل أشكال الجور الاجتماعي فهي ترضى بعيش وضيع تجسد في إقامتها بزريبة حيوانات و تلك اشارة الى تغييب العقل عند كل امرأة ترضى الذل و المهانة و لا تسعى الى تغيير وضعها و كسر قيود كبلها بها واقع اجتماعي متخلف ـ شخصيتا الام و ابنتها : هاتان الشخصيتان تمثلان النموذج التقلبدي للحماة الشريرة و أخت الزوج العانس اللتان تحيكان المكائد فتحولان حياة( الكنّة / زوجة الابن او الاخ )الى جحيم و كلتاهما تحركها الغيرة فالام تغار من الزوجة باعتبارها قد استحوذت على الابن و الأخت تحركها غيرة عانس من فتاة جميلة ظفرت بزواج لم تتمكن هي من تحقيقه……. ـ أما شخصية الزوج التي من المفروض أن تكون حكيمة متعقّلة لتخمد نار حرب نسائية نراه يحكم بموت علاقته الزوجية خوفا من امه و اقرار ضمنيا بضعف شخصية الرج الذي لا يخرج من ثوب أمه رغم الزواج و لا يستقل لا بالحياة و لا بالقرار..
انه يجسد التبعية الاجتماعية التي لا تؤدي الا الى تفكك الأسرة و تشرذمها…
=======================
د ـ الأحداث :
لقد تسلسلت الأحداث في القصة تسلسلا خطّيا جعلنا نسير شيئا فشيئا نحو العقدة و التأزم اذ تميز وضع البداية بالهدوء : (تعارف حب فخطبة فزواج ) ..
لنصل الى وضع التحول الذي تميز بالتأزّم و البحث عن حل للخلاص..
و تنتهي القصة بالانفراج و حل العقدة من خلال السير في اجراءات الطلاق بعد هروب من السجن و قضبانه

ــــــــــــــــــــــــ
هكذا يمكننا الحديث عن الإتّساق في الاقصوصة اذ توفرت فيها حبكة قصصية محكمة و لعلّ أهم ميزة في تلك الأحداث تمثلت في التشويق بدءا من الصوت الغريب و هو يترامى الى مسمعها (لم تتمكن من معرفة كنهه ان كان غناء ام نداء ) وكان التشويق متساوقا مع
السرد باستعمال جمل قصيرة متسارعة و هي في طريقها لاستجلاء الأمر (ارتدت رداء خارجيا ، تسللت ، نزلت الى فناء المنزل ، وصلت الى باب الحوش …….)
و قد ساهم الوصف ايضا في جعل القصة مشوقة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2_ الوصف :
لا يخلو النص القصصي من مقاطع وصفية و قد ركزت الكاتبة في اقصوصتها على الوصف الخلقي الظاهري للشخصيات الذي يعكس وصفا داخليا عميقا فقد ركزت على شخصية البطلة و قد اختلف جمالها عن جمال بنات قريتها لتقول أن ذاك الاختلاف تجاوز الشكل الى المضمون فهي لم تسلّم بالموجود المتمثل في الظلم الاجتماعي و انما تطلعت الى منشود جعل منها مختلفة فعلا و خارجة عن السرب او عن القطيع النيتشوي أما الموصوف الثاني فهو الزوج و قد ركزت الكاتبة على وسامة شكله و جعلته يساوي قمامة في آخر القصة فجمال الشكل لم يعكس جمال الطبع و الروح و الدليل جريه في آخر النص وراء ربح مادي يمكن أن يكسبه بعد الطلاق .
و الشخصية الثالثة الموصوفة هي شخصية العمة او ذاك المخلوق الغريب كما نعتتها الساردة ب (امرأة السبعين) …
لقد كان الوصف موظفا لكل الشخصيات دقيقا عكس ظاهرا مصرّحا به و باطنا ملمّحا اليه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
3_ الحوار:
ان الحوار نمط في الكتابة القصصية يمكّن النص من حركية و حياة و قد توفر الحوار في هذه الأقصوصة بشكليه الحوار الباطني و الحوار الثنائي
بالنسبة الى الحوار الباطني فانه قد كشف تماهيا بين الساردة و البطلة عندما كانت تخاطب نفسها بضمير أنا قائلة مثلا (لكني أنا و يا ويلي من أنا و فضولي )
كما كشف الحوار عن حيرة الشخصية عند قولها (يا الهي كم يشبهه )..
أما عن الأسلوب المستعمل في الحوار فقد كان منسجما مع المضامين و المقاصد اذ نجد الساردة تستعمل في الحوار الذي دار بين البطلة و الأم أسلوبا انشائيا قائما على الاستفهام الانكاري أولا…فالام تستنكر وجود العروس عند العمة ثم تلتجئ الى استعمال اسلوب انشائي ثان قائم على الأمر (تحركي/ اقبعي /اصعدي )
لقد أرادت بالأمر هنا.. مقصديةهي الاستعلاء من جهة و التهديد من جهة ثانية
فالعلاقة بين الزوجة و أم الزوج هي علاقة عمودية تقوم على الامر والنهي ..
أما لغة الحوار بين العمة و البطلة فقد قامت على ثنائية السؤال و الجواب لتؤسس لنمط ونموذج من شخصية البطل المتواصل مع الكائن الغريب كما نعتتها و كي تؤسس لمعرفة قد تساعدها على الانعتاق فالتحرر يبدأ بالبحث في الأسباب و النظر في النتائج للوصول الى الحلول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
4 ـ أهم القضايا المطروحة في القصة :
تطرح القصة جملة من القضايا الاجتماعية أهمها :
ــ قضية المرأة في المجتمعات العربية و النظرة الدونية اليها رغم تعلمها و خروجها الى سوق الشغل و ما الام و ابنتها الا نموذجا اجتماعيا مصغرا لنماذج كثيرة في المجتمع اجمالا
ــ القضية الثانية المشاكل العائلية بعد الزواج بين الزوجة و أسرة الزوج و عدم قدرة الزوج على التوفيق بين الطرفين
ــ الزواج بمثابة المقبرة للمرأة المتعلمة العاملةفي مجتمع متخلف
ــ عدم استسلام المرأة للموت الزوجي و بحثها عن طرق للخلاصوسبل للانعتاق
هكذا تبدو تلك القضايا التي طرحتها الكاتبة ظاهرة بيِّنة متعددة و لو أردنا أن نبحث عن قضايا أخرى غير معلنة لوجدنا الكثير ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الخاتمة :
نظرا للغنى الدلالي والمعرفي لمثل هذه النصوص والذي لا تفي بحقه قراءة سريعة بأي شكل من الأشكال . إلا أن هذه الكلمة البسيطة تسلط الضوء على بعض الجوانب الجمالية للقصة القصيرة ، وهي بمثابة شهادة وتنويه بهذه التحفة الأدبية الثمينة ، ودعوة للنقاد ليمنحوها قدرا من الاهتمام
ولعل قراءة هذا القصة القصيرة تكشف لنا المستوى الراقي الذي وصلت إليه نصوص الكاتبة ، والنوعية التي تتوفر عليها من ناحية الأدوات والتصوير والتشكيل والموسيقى والخيال والرموز وغيرها من التقنيات الشعرية الحديثة التي جعلتْ هذا الجنس الأدبي يرتقي ويحتلَّ في ساحة الأدب المعاصر مكانا رفيعا كريما ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لنص الاصلي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
موت بحكم الحياة
صغيرة يحكمها الحمق ، والخافق بين جنباتها يرقص طرباً ، لمحت طيفه وكأن عصا سحرية لمستني فحوّلتني من مراهقة إلى عاشقة،
-” يا إلهي كم يشبهه! هل يُعقل أن يكون هو؟”
هذا ال (هو) نجمي المفضّل” ، تراه بقلب مراهقة ،” كلّ يوم كنت أراه بنفس المكان وبنفس التوقيت ، أنا…. فتاة ريفية تتمتع بجمال غريب غير معهود في قريتها الصغيرة ، مدلّلة والديها ، الوالد كان حريصاً جداً على أن تتم تعليمها الجامعي لتحمل بالنهاية شهادة ذكائها المتوقّد، وتخرّجت من كلية الآداب بتقدير ممتاز ، أهّلتها للعمل بمؤسسة حكومية بمركز جيد ،
تلتقيه في طريقه لعمله في مؤسسة تابعة لمديرية السياحة ، مليح الوجه مرّ الحسن على قسماته فوسمه، بعد تبادل النظرات ثم الابتسامات ، فالتحيات ، كان الحسم بلقاء، انتهى بأخذ موعد لزيارة أهله لطلب يدها ….. ….
حضر مع أمه وأبيه ، أوجست خيفة من أمه التي كان من الواضح أنها تتحكَّم وتمسك بكلّ زمام حياته ، لكنّها وطّنت نفسها واثقة بقدرتها على احتوائه والاستقلال به دون أن تبخس أمّه حقّها به، فترة خطوبة شفافة ، ثم عرس في ربيع مزهر ..كان عرساً صعيديّ الطراز، انتهى بانتقالها إلى عِش الزوجية في قريته في الطابق الذي يعلو دار أهله، حوالي منتصف الليل ، ترامى إلى مسمعها صوت غريب ، يفيض حناناً وألماً
لم تستطع أن تحدد هل هو شخص يغني ؟ أم ينادي ؟
إحساس غريب تلبّسها أنّ الصوت يناديها !
أيقظت عريسها، تسأله عن الصوت ، أجابها وهو نصف نائم :” هو عفريت نامي الآن “.
لم تستطع النوم ، ارتدت رداءً خارجياً وتسللت ، نزلت إلى فناء المنزل تتتبّع الصوت، وصلت إلى باب الحوش، أو ما يسمى بالزريبة حيث توجد بعض الحيوانات ، استجمعت قوتها ودفعت الباب، وتسمرت …..! ….”لكني أنا ، ويا ويلي من أنا وفضولي….”
هو مخلوق غريب…..! تماسكت ، اقتربت ، أحاول الحفاظ على رباطة جأشي ، قرّبت المصباح من وجه المخلوق وهالني منظره…. !
عجوز بعيون بيضاء، وكأن القزحية عندها قد تحلّلت وذابت فاحتلّها البياض، مرّ الزمن على وجهها ويديها مخلِّفاً أخاديد شديدة الغور، واختفى لون الحياة فارّاً من جنباتها ، مخلِّفاً شحوباً بانت منه العروق خرائطَ محبّرة ، نما شعرها عقدة صوف بيضاء شعثة، أسمالها تستر القليل من جسدها النحيل الذي فقد كلّ شيء إلا هيكلاً عظمياً يبرز مفاصله عنوة من وراء جلد متغضّن، استطالت أظافر اليدين حتى شاركت أهل الكهف، في السبعين من العمر، لم ترتكس لتسليط الضوء على وجهها، فهي عمياء، أحسّت بأنفاسي المتلاحقة ، توقفت عن الغناء الشجي سألتني باستغراب ووجل:
– ” من أنت؟.” أجبت بتلعثم :
– “أنا عروس أحمد يا خالة”.
– “عروس أحمد ؟ لا يجب أن تبقي هنا يا ابنتي ، عليك مغادرة هذا البيت فوراً، سيفعلون بك ما فعلوه بي “.
رفعت وجهي إلى السقف فالتقت عيناي عيون القمر الوقحة ، وهو يرسل ضوءه من السقف متسللاً ليكشف كلّ الأسرار…..نعم هي عادة سيئة لديه عُرف بها خصوصاً بين العشاق، لم يمنع تجسسه السقفُ فهو سعف جريد، وسيقان ذرة …..!.
جال المصباح في أرجاء الزريبة ، بقرة هنا ، وحمار في الزاوية ، عنزة هناك ، وعشة فراخ ، رائحة روث الحيوانات خانقة ، سألتها بشفقة :
– “من أنت يا خالة ؟”
– ” عمّة أحمد، أظن أنّ عمري قد تجاوز السبعين، أقيم هنا منذ أكثر من ثلاثين عاماً، كنت قبلها أعيش مع أختي وأولادها، توفيت وضاق أولادها ذرعاً بي ، لم أتزوج ، قدمت إلى أخي والد أحمد ، أعطيته قطعة الأرض خاصتي وما كنت أدّخره من نقود، مقابل أن أقيم عنده ويكون لي ستراً ، لكن زوجته لم يرق لها ذلك، أجبرته على إلقائي هنا، وأشاعت بين الناس أنني توفّيت بعد أن توفّيت أختي، لم يعلم أحد بوجودي هنا ، أذاقتني كل ألوان المهانة والحرمان، بكيت حتى ابيضّت عيناي، لم أغادر مكاني مُذ قدمت ، تتعاقب علي الفصول ، فأغرق شتاءً بالمطر المتسلل من هذا السقف المتهالك ، وأكتوي صيفاً بلهيب الشمس الحارقة “.
أصوات بالخارج ، وقع أقدام تقترب ، ويفتح الباب كاشفاً وراءه أخت أحمد وأمه ، و النار والشر والشرر تتطاير من عيونهم حتى لامس أواره أثوابي فتراجعت خائفة ،لكنني سرعان ما استعدت رباطة جأشي، تحفّزت لمواجهتهم حين أطلقت أم أحمد سؤالها كزئير الوحش :
– ” ماذا تفعلين هنا ؟ المفروض أنك عروس، موقعك إلى جانب عريسك “.
حاولت بكل جهدي أن يكون صوتي قوياً وقلت :
-” سمعت أنيناً غريباً منعني من النوم ، فنزلت استكشف مصدره ، ووجدت العمّة هنا، لماذا هي هنا ؟ماذا فعلت حتى استحقت هذا الحكم بالسجن المؤبد ؟”.
اتسعت عينا أم أحمد حتى كادتا أن تفرّا من محجريهما ، و أخت أحمد تشيرلي من خلفهما أن أسكت ،لم ألتفت التفت اليها ، وصبّبت كل تركيزي على أم أحمد متربّصة بها ، أمنعها من الانقضاض علي، لن تنال مني، حتى أطلقت استهلال غضبها بأول رصاصة نحوي:
– ” من أنت أيتها الحمقاء حتى توجهي لي هذه الأسئلة الملفّحة بالاتهامات ؟ ليس هذا من شأنك ، كما أنه لا دخل لك بالعمّة لا من قريب ولا من بعيد، انسَي تماماً أنك رأيتها، وإلّا لن ترَي خيراً أبداً، تحركي إلى الأعلى واقبعي إلى جوار عريسك ، هذا الغبي كعادته ، نام نومه العميق ، ولم يشعر بك تتسلّلين ، تحرّكي “
نظرت إليها بازدراء مفتعل ، مررّت من أمامها وهي ترمقني بكل كبرياء وكأنها ترسل لي رسالة .. أن أحذر غضبها …نظرت إلى العمّة ، اقتربت منها وهمست في أذنها :”
” ألقاك غداً ..!”
– تمتمت العمة بخوف وهمست :
-“لا تفعلي …ارجوك…. لا تفعلي”
في الصباح ، كان الحديث أبعد ما يكون عن حديث بين زوجين توّجا حبهما بالزواج ..أنّبته بعنف بأسئلتي المحرجة :
– ” كيف تقدمون على وأد بنت دمكم هكذا ؟ – أي قلوب تحملون بين جنباتكم ؟”
أشاح بوجهه عني وأشار لي بيده بملل أن أنهي الموضوع وقال بلهجة محذرة :
– ” إياك أن تتدخلي بهذا الأمر ، وإلا ستفتحين عليك جبهة أمي التي لن ترحمك”.
غضبت حتى صعد الدم إلى رأسي و قلت:
-:” يبدو أن الرحمة غادرت قلوبكم جميعاً، كيف تسكتون على هذه الجريمة ؟ماذا فعلت المسكينة حتى تسجن وتُدفن هكذا ؟ ألستم بشر ؟ ألا تخافون الله …؟”. صرخ بغضب شديد :
” – أمي من فعلت هذا “.
أجبته بصرخة أعلى من صرخته :
-” ومن أمك حتى تفعل هذا ؟ من سيّدها على عمتك ؟ كيف سكتم عنها ؟ لماذا سايرتموها ؟ “
رد بحزم وبصوت تملأه الشفقة والرفض لفعل امه اللانساني :
-” أمي سيّدة هذا البيت والكل يأتمر بأمرها، وعليك أنت أيضاً أن تنفذي كل ما تقوله ، وإلّا ستنغّص عليك عيشتك، لقد عزلت أبي عنها منذ حوالي ٢٠ سنة و هو لا حول له ولا قوة ، وأختي أمينة كما ترين جاهلة أمية ، تمشي وراء أمي كظلّها ، لا أظنها ستتزوّج يوماً ، ستبقى خادمة عند أمي “.
– قاطعته بانبرة استهزاء :
-” وأنت ؟”
رد بتساؤل وكانه أحسّ بنبرة استهزائي :
– ” ماذا تقصدين ؟ اسمعي لن أفقد صفاء حياتي بسببك ، إن غضبت أمي عليّ أحالت حياتي جحيماً ، فحذاري .”
أعقبت بجفاء :
– ” لكنك مشارك في جريمة ، كيف لي أن آمن على حياتي معك وقلبك راضٍ وصامت عن جريمة ارتكبت في حق رحمك ؟ سأحضر عمتك إلى هنا وأجهّز لها غرفة لائقة ، تقيم بيننا “
صاح بوجهي كالملسوع :
-” احذري حتى التفكير في ذلك، أبعدي هذا الخاطر عن مخك الصغير وتعالي إلي مدلّلتي “.
– “مدللتك ؟ لا أظنك تدللني أبداً ! من سكنت القسوة قلبه لا يتقن التدليل .” رد علي بزعل :
– ” فإذن ستبقين سجينة هذا البيت ، لن تغادريه أبداً”
في نهار اليوم التالي ، بعد أن أتمّمت إعداد الغداء، نزلت إلى الحوش قاصدة العمة بطبق طعام ، ولكن سرعان ما فاجأتني الحماة، وأخذت من يدي الطعام ، أتت عليه خلال دقائق، وأنا ارمقها باحتقار وازدراء ، غادرت راكضة إلى الطابق العلوي لأشتكي لأحمد ما كان من أمر أمّه المتسلطة ، فما كان منه إلا أن انقضّ عليّ بالضرب الشديد، حتى ظهرت آثاره فيما بعد، كدمات تماهت ألوانها بين البنفسجي والأصفر ، وقفل الباب خلفه و غادر وتركني حبيسة ندمي …!
فأعلنت إضراباً عن الطعام ليكتمل معنى السجن والسجان والسجين ……
استمرت العمة السجينة كلّ يوم ترسل صوتها بعبارة :
– ” اهربي ، وإلّا ستكونين الضحية التالية ، اهربي “.
ومضى على إضرابي عن الطعام وسجني حوالي عشرة أيام ، وكان قراري الهروب ….
من نافذة صغيرة لكي أبدأ مشوار حريتي … ألقيت بجسدي الناحل على كرسي أسقطته عمداً على سقف مجاور، ولكني أخطأت التقدير فكان السقوط عنيفاً ، أخذني نحو دهليز مظلم يقود الى مكان غريب كالقاعة إلى قاعه و يد حانية تمسح رأسي وتتبتّل إلى الله بدعوات بالشفاء العاجل ، أظن أني شمّمت رائحة الجنّة…لم أدرك كم بقيت فيه، أفقت مرة أخرى لأجد وجهاً محببّاً يناديني
-:” أيتها الشقية ، هيا استفيقي كفاك نوماً لقد نمت كأهل الكهف “.
وجه أخي المتوهّج كالبدر في الظلام ، رأيت فيه خلاصاً من ظلمة أحاطت بي طويلاً …
وهي جلسة أخيرة مع غلطة عمري يفاوضني على الطلاق مقابل مصوغاتي الذهبية…. !
غادرت ، و نظري يتفحص قمامة بشرية وقدماي تنقلني دون أن أحس نحوها ، وسمعتها تقول :
-” اذهبي يا ابنتي، حياتك غالية ، واتركيني انتظرهم في قبري فحسابهم عسير”.

أحدث المقالات