17 نوفمبر، 2024 7:30 م
Search
Close this search box.

وسائل البحث الموزون عن  حكومة تكنوقراط

وسائل البحث الموزون عن  حكومة تكنوقراط

حكومة التكنوقراط من الناحيتين الفكرية والفنية هو مفهوم حديث في العالم العربي،  ظهر بالسنوات الاخيرة بتركيز صحافي – تلفزيوني نتيجة  للأحداث المتلاحقة في تونس ومصر والعراق وسوريا وبعض الدول العربية الأخرى عام 2011..   
لم يخضع هذا المفهوم ، بعدُ،  الى حركة النقد السياسي في العالم الثالث إلاّ قليلاً . كما أنه ظهر في بلادنا ، بعيداً، عن الأصول السياسية والفكرية الكلاسيكية ،من دون التأمل في حركة حكومة التكنوقراط وفي تبادل صلاتها التطبيقية واكتشاف التيارات العامة لتلك الصلات.

صار الكثير من قادة أحزاب الإسلام السياسي يلقون، أمام الناس، على شاشات التلفزيون، طائفة من الخطابات عن الحكومة التكنوقراطية، معتبرين إياها وسيلة اصلاحية مطلوب انجازها بأوقات محددة، بأشكال محددة، بأيام واسابيع وأشهر محددة، من دون احتياط ولا دقة، كأنما الرئيس حيدر العبادي روبوت يؤمر إلكترونياً لتنفيذ البرامج بالتوقيتات المحددة او تكون النتيجة انصراف الرئيس عن الوزارة بالاستقالة او الاقالة. يخيل لهؤلاء انهم وحدهم الأعلم والافهم ، بينما أغلب هؤلاء كانوا خلال 13 عاما قد منعوا بعقولهم وأيديهم ووسائلهم الدينية والدنيوية ليكون العراق الجديد بلداً مدنياً متحضراً يتمتع بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة أمام القانون.

هذه الحال لا تؤدي إلى إصلاح أو تغيير. اول ما يحتاجه الرئيس العبادي هو درس وتحليل اساليب قادرة ،فعلاً، على تغيير الواقع العراقي الصعب.

في العام الماضي استظهر الدكتور مهدي الحافظ عضو مجلس النواب الحالي حال اعلان الرئيس العبادي عن نيته الاصلاحية واضعاً امامه مجموعة من الآراء والاساليب مأخوذة من تجارب عالمية وعربية مختلفة ذات شكل وموضوع محدد تقوم على ثلاثة صدمات ضرورية:

 الصدمة الاولى: تجميد الدستور تمهيداً لتعديله.

 الصدمة الثانية: حل مجلس النواب تمهيداً لانتخابات حرة نزيهة.

 الصدمة الثالثة: إعلان حالة الطوارئ تمهيداً لاتخاذ إجراءات يومية سريعة من دون معوقات قانونية لمعالجة مشاكل مستعجلة ووضع البلاد في طريق التنمية والسلم الاجتماعي لممارسة الديمقراطية.

مهدي الحافظ ليس رجلاً عاطفياً وليس خطابياً من هواة الظهور التلفزيوني.. هو مناضل من رعيل المناضلين من زمان النظام الملكي وهو رجل علم مستقيم وباحث سياسي واقتصادي معروف على المستوى العالمي بقدرته على المقارنة والاستنباط.

يبدو أن (الصدمات الثلاث) التي اقترحها مهدي الحافظ لم تجد صدى لدى العبادي لأن (صدمة) الحرب ضد الارهاب وداعش والعسر المالي، الناتج عن انخفاض اسعار النفط  جعلت العبادي  يدفع  بمقترحات الحافظ  الى ادنى المجرات خلف مكتبه، مصرّاً أو مكرهاً على عدم تطبيق أي منها ، إنما اللجوء إلى بعض خطوات وقرارات  لا تسمى إصلاحاً بأي معنى من المعاني، لأنها لم تخرج عن نطاق إجراءات روتينية. ربما لا تحمل اخطاءً، لكنها لا تنجح بمعالجة أصعب أزمة مالية.  لم يكن امام مهدي الحافظ غير التمني للرئيس العبادي، التوفيق في الوصول إلى تطبيق اساليب وقيم منتجة ايجابياً على أرض الواقع.

لكن بعد ستة شهور من ضياع الوقت الحاد ،من قبل الحكومة الحالية ، بعد تشكيلها في منتصف العام 2015 ،  ظهر ميل جديد لدى الرئيس العبادي إلى البحث عن جزيئات جديدة لتجميعها بخطة اصلاحية للمرحلة الثانية ، بالرغم من اعترافه أن إجراءات المرحلة الاصلاحية الأولى لم تكن مثمرة.

قبل سفره الى ايطاليا والمانيا ببضع ساعات عبّر الرئيس العبادي، بخطاب تلفزيوني،  عن مذهب من مذاهب التغيير والاصلاح في (المرحلة الثانية) من خطته  عبر تغيير وزاري جديد لا أحد يدري، هل هو تغيير شامل أم  جزئي..؟  لكن النظر اليسير يشير بوضوح إلى أن الوزارة الحالية لا تملك قدرة لإنهاء أزمة البلاد المستعصية.

 من تلك اللحظة صار حديث واسع في الصحافة والتلفزيون حول ضرورة تشكيل (حكومة تكنوقراط) . تضمن هذا الحديث ابتكارات واختراعات بعض القادة والقوى السياسية أن (حكومة تكنوقراط) هي (الحل السحري) لمشاكل الدولة والناس والمجتمع، مما يحتم على الباحثين الواعين وقفة عاجلة مختزلة للوصول إلى معرفة عاجلة مختزلة حول طبيعة وقدرات اللون الانكليزي او الالماني او الفرنسي وتجارب مختلف الشعوب الاخرى عن دور (التكنوقراط) في تأمين حياة افضل وخلق الامن والطمأنينة والعيش بحياة سياسية راقية  قادرة على إجادة أداء موظفي الدولة والظفر بمعالجة أزماتها كافة .

السؤال البسيط الاول هو : ما هي حكومة تكنوقراط..؟

كان علماء السياسة والاقتصاد في الولايات المتحدة الامريكية  اسبق الناس في خلق هذا المفهوم مستخرجين اسمه من مصطلحين كلاسيكيين يونانيين  هما (تكنو) و (قراط) وقد دخل منذ عام 1932 إلى أدب الصحافة السياسية.

الجواب البسيط الاول هو  ان الضرورة الاقتصادية في المجتمع الامريكي بعد الازمة الاقتصادية العالمية عام 1929 دعت الى البحث في الجامعات والمؤسسات الاقتصادية الامريكية عن حلول واقعية حيث وجد العلماء والباحثون فيها أن الدولة الامريكية برأسها الاعلى ينبغي أن لا تقتصر إدارتها على (رجال السياسة) فحسب، بل ينبغي رفدها بكفاءات ونخب من (المهندسين) و(المعماريين) و(الاقتصاديين) قادرين على قياس ظواهر الأزمة العامة واستخلاص قوانين استثنائية خاصة، يمكنها معالجة اسباب تدهور النظام الاقتصادي والاجتماعي.  ظل هذا الشكل البسيط من الحلول التكنوقراطية منذ عام 1932 حتى الآن موضع التجريب . كما خضعت جميع فنون الادارة الرأسمالية وانواعها لنظريات اعادة اعمار أوربا بعد خراب اجزاء كبيرة من مدنها في الحرب العالمية الثانية   بموجب  (مشروع مارشال).

حال العراق عام 2016 ليس كحال امريكا عام 1932 وليس كحال أوربا عام 1945 لا في الاخلاق السياسية ولا في الامور الادارية ولا في المناهج الاقتصادية ولا في الخطط الاعمارية، بل العكس تماماً.   نشأت في بلادنا خطط اعادة اعمار العراق بعد الغزو الامريكي عام 2003  ليس على اساس العلوم الاقتصادية الحديثية ،بل بمقومات الاسباب الدينية والطائفية السياسية حتى وصل الوضع إلى حروب داخلية وتفسيد الجهاز الاداري في جسد الدولة – أفقياً وعمودياً –  مما جعل الفساد والرشوة بيئة شرعية وصار موظف الدولة معنياً بمصالحه وليس بمصالح الناس.

من ينظر الى تركيبة الحكومة الحالية يجد فيها:

حامل شهادة دكتوراه من الجامعات الفرنسية في حقل الادارة الاجتماعية ،

 ثم يجد فيها اكاديمياً  حاملاً ارقى شهادة الدكتوراه في العلوم التكنولوجية من جامعات بريطانيا ،

كما يجد عالما مختصاً بشئون الطاقة الذرية للأغراض السلمية ،

كذلك يجد فيها المهندس والمحامي والطبيبة وغيرهم من اصحاب الشهادات العليا فلماذا لا تعتبر هذه الحكومة هي (حكومة تكنوقراط)..   لماذا  لا تلائم هذه الحكومة عصرنا الحالي.. لماذا لم تطوّر نفسها لتكون اداة القيادة في البلاد.. لماذا ركزت عنايتها على ذاتها .. لماذا يتصارع الوزراء ومن خلفهم النواب بالبغض والحسد في ما بينهم ، مدفوعين ليس بعلوم نيوتن ولامارك وداروين وباستور واينشتاين وكارل ماركس وتوماس اديسون وابن رشد وابن خلدون وآلاف غيرهم ، بل مدفوعين بعواطف وميول وأهواء الثراء بلا مشقة وعناء ،حيث عندهم (العلم) شيء و(التكنولوجيا) شيء و(التقدم) بمصالح الدولة وحل ازماتها شيء آخر.

كان أول ناتج للواقع الاداري الحكومي رغم الشهادات العالية، التي يحملها الوزراء هو انتشار وباء الثراء بالفساد المالي وتهريب الاموال خارج الوطن باستثمارات طفيلية، مما يعني أول ما يعني، أن رئيس الحكومة حيدر العبادي لا يستطيع ان يبرأ شخصيته ومسئوليته المباشرة وذوقه المتفرج على ما جرى في حكومته وما يجري ،مكتفياً بــ(الكلام) من دون أن يعالج أي طرف من أطراف أزمة البلاد بـ(الأفعال) وليس بمجرد (الأقوال) ناسياً أن التكنوقراط الواعي الحقيقي يعالج مشكلاته في (المعمل) وليس في (المكتب)..!

لا شك ان بلادنا بحاجة الى حكومة من نوع جديد تستطيع به مجموعة وزارية لا يزيد عددها على عشرين نخبوياً لقيادة واصلاح دولة منخورة جميع مؤسساتها بفساد ورشا ملايين الموظفين، الذين لا يملك اكثريتهم اخلاقية خدمة الدولة والناس والوطن رغم ان هذه الاكثرية تملك شهادات جامعية. 

أول خطوة عملية بالاتجاه الاصلاحي تقوم على الاسس التالية:

(1)  اختيار كفاءات مجربة مستنيرة تمتاز ليس بحمل الشهادة العليا ، بل بنوع عال من المعرفة التامة بما تفعله علوم الكيمياء والفيزياء والجيولوجيا والادارة والتكنولوجيا في تغيير حياة الناس والمجتمع.

(2)  ينبغي أن يكون اختيار الوزير العراقي مثل اختيار  الوزير في الدول الاوربية الصغيرة المتقدمة (الدانمارك.. هولندا ..سويسرا..)  متمكناً في فهم البيئة العراقية والزمان الحالي ودور العلوم والفنون والتكنولوجيا في تطوير المجتمع.

(3)  اختيار الوزير على اساس قدرته التطبيقية وتجاربه الحياتية في اكتشاف الصلة الحقيقية بين (الدولة) و(الناس) ووضع قانون العدل والمساواة والانصاف موضع التطبيق اليومي وليس موضع الاسراف البيروقراطي .

(4)  اختيار الوزير ينبغي أن لا يقوم على اساس الشهادة العليا ،  بل على اساس التزامه بإنسانية الانسان وبالميل الحثيث نحو الديمقراطية باعتبارها ظاهرة العصر،  على أن يتركز هواه الاول على تطبيقها في جميع مؤسسات وزارته.

(5)  اختيار الوزير يجب أن يقوم ليس على (الشهادة العليا) ، بل على قدرته بعدم الخضوع لتلطف العائلة والعشيرة والطائفة والحزب،  أي على مواصلة الزهد الثوري –  مثاله القديم عليّ ابن ابي طالب ومثاله العصري جيفارا –  وأن يكون عالماً بأن إكراهه على شيء هو بمستوى جريمة لا يُعفى عنها.

(6)  اختيار الوزير يجب أن يقوم على القدرة في اغراق عمله الوطني  بالعلم وحده متجرداً من ميول واهواء المخبر السري المدعو ( حجي قدوري الزرزوري) المتستر في كل مؤسسة من مؤسسات الدولة والمجتمع ، الموبوءة بخاصية وجود (الراشي والمرتشي) في كل أجهزة الدولة ومؤسساتها..!

بهذه الاسس وحدها يمكن تحقيق خطوة اولى نحو اصلاح الوضع العراقي الحالي، الذي لا يمكن معالجته إلاّ بمعجزة ادارية – سياسية يتجلى فيها ليس عنوان (حكومة تكنوقراط) ، بل  فيها خصائص ومميزات لها قواعد وأصول متوفرة في تجارب شعوب دول كثيرة في هذا العالم

أحدث المقالات