أذكر خبرا نشرته وسائل إعلام أمريكية، أشارت فيه الى اعتذار رسمي قدمه المواطن الأمريكي (بيلي تيتليف 73 عاما)، واللافت للنظر أن اعتذاره لم يكن شفهيا فقط، بل أنه قام بزرع شتلة ورد في حديقة عامة، قال انها تكفير لذنب اقترفه قبل أربعة وخمسين عاما. نعم..! أربعة وخمسون عاما مرت ولم تنطفئ جذوة الشعور بالذنب عند هذا الرجل، وهذا يدل على صحوة ضميره وسمو مشاعره الإنسانية وإيمانه أن “كلنا خطاؤون”..! ويبدو أنه أراد أن يكون خير الخطائين فارتأى التوبة بطريقة خاصة يضرب بها عصفورين او أكثر، فهو اعتذار وتوبة وفي الوقت ذاته تعبير عن حبه لوطنه والتصاقه بأرضه التي يقف عليها. أما الذنب الذي اقترفه (بيلي) قبل أكثر من نصف قرن من الزمان، فهو أنه قطف من الحديقة العامة أزهارا يومذاك، بعد مباغتته حراس الحديقة ليهديها الى امه في عيد الأم، إذ لم يكن يملك نقودا لشراء هدية لها.
ان شعور هذا الرجل ماهو إلا ولاء مطلق لوطنه الذي يعده بيته الكبير، كما أنه احتسب حديقته العامة حديقة منزله، وبالتالي فمن المؤكد ان جميع مرفقات هذا الوطن يعدها جزءا من مقتنيات بيته، فصار المال العام والخاص سيان. ولا أظن ان هذا الرجل (بيلي تيتليف) هو الوحيد الذي يملك هذا الشعور, فلدينا نحن العراقيين كثير من أمثاله، لدينا من لايقطف وردة من حديقة عامة، ولدينا من لايرمي عود ثقاب في الشارع، ولدينا من يحترم الإشارة الضوئية، ولدينا كثير ممن يعشقون ارض العراق وماءه وسماءه، ويكنون ولاءهم لترابه، إلا ان شعورهم السامي هذا لا يسلط عليه الضوء، بل هو محصور في زاوية فيها شخوص يكنون الولاء المطلق لجيوبهم، ولمنافعم الخاصة ومآربهم الشخصية او الفئوية، ويؤثرون المال الخاص على العام، بل هم لايتوانون عن سرقة العام وضمه الى الخاص دون خجل او ورع او وازع، فهؤلاء باعوا الولاء واستبدلوا الانتماء لتاريخهم العريق بالأغراض الدنيوية فحق عليهم بيت الشعر:
نحن انتمينا الى تاريخنا بدم
وآخرون على تاريخهم بصقوا
والأخيرون لسوء حظ العراقيين كثر، لاسيما الذين لهم من المناصب ما يمدهم بنفوذ وجاه يظنون أن استغلاله فرصة لاتعوض ولاتكرر، فراحوا يعيثون في الأرض فسادا إداريا وماليا، فظلموا الناس وأنفسهم على حد سواء، وأنستهم مراكزهم الوظيفية العليا ان من لم تكن اصوله متجذرة في ارضه تهزه الريح وتقتلعه ولو بعد حين، وسيأتي يوم يُجزَون بما صنعت أيديهم، ويُعطون على حد قول مثلنا؛ “كلمن طينته بخده“.. وسيُخلعون مما هم فيه من نعيم وجاه وسلطان شاءوا أم أبوا، وسيكون مصيرهم كمصير ابن زريق البغدادي في قوله:
أُعطيت ملكا لم أحسن سياسته
وكذاك من لايسوس الملك يُخلعه
ان ما قام به المواطن الامريكي (بيلي تيتليف) في وطنه حري بنا نحن العراقيين التحلي به في وطننا، لاسيما اننا في وقت تتهافت فيه النيات والأغراض من أطراف تضمر الشر للعراق والعراقيين لتفتيت صورة المواطنة والولاء.
فلتكن الشتلة التي غرسها (بيلي) مبديا اعتذاره عن ذنب جناه بحق الوطن قلما بيد الكاتب.. وكتابا بيد الطالب.. وبندقية بيد الجندي.. ومشرطا بيد الطبيب.. ومطرقة بيد العامل.. ومنجلا بيد الفلاح.. لبناء بلدنا الذي لن يبنيه إلانا، وليقدم كل من أذنب منا بحق بلده اعتذارا شفهيا وتحريريا، ولتكن أنفسنا -بعد تطهيرها- نقطة مثابة وشروع وحجر اساس، ننطلق بها للبناء والإعمار كما قال شاعر:
ان كان إصلاحي لجسمي واجبا
فإصلاح نفسي لامحالة أوجب