بعد التحية، أنت تسأل إن كان تصفحك اليومي ومتابعتك للفيسبوك ونشرك فيه يجعلك عامرا بالحياة وكاتبا متميزا؟ وأنا أجيب أنه على العكس يجعلك تعيسا ومشوشا ومسطحا وبثقافة ضحلة.. السبب هو أن الفيسبوك يمطرك بوابل غير منقطع من المعلومات؛ صورا وقصائد وقصصا وفصولا روائية ووجهات نظر وتعليقات.. بينما أحد أسباب السعادة هو التركيز والتفكير العميق الذي يجعل العقل هادئا. انزالك اليومي أو شبه اليومي لقصائد وقصص وصور ووجهات نظرك لا يصنع منك أديبا متميزا لأن ما تنشره لم يأخذ وقته من التشكل الفني والانضاج في العقل الباطن. كما أن الوقت الثمين الذي تنفقه يوميا سيساهم في فقرك الروحي والمعرفي وكم أنت بحاجة ماسة للوقت الذي يتبخر سريعا من ميدان حياتك وأمدها المتآكل يوما بعد آخر! حبذا لو تخصص ذلك الوقت لمقابلة أصدقائك وجها لوجها في مقهى أو مكان ما وان كان اللقاء بهم مجهدا، أو الاتصال بهم وسماع صوتهم البشري الحقيقي بعيدا عن كهفك المظلم وتوهمك لما ينعكس على جدار الفيسبوك هو العالم الحقيقي. أو كن متواصلا مع الطبيعة؛ الهضاب، الأنهار، الأشجار، الصخور، والعشب.
مساهماتك الدائمة وتباهيك بأنه لديك كذا ألف من الأصدقاء وأنك تحصل على”لايكات وتعليقات” كثيرة حينما تنشر مادة لا يصب إلا في تضخم نرجسيتك ويقيدك بقوة إلى جدران كهفك المظلم، واقع الحياة يقول إن من الصعب الحصول على حفنة صغيرة من الأصدقاء الحقيقيين، انس العشرات أو المئات أو الآلاف.. السؤال الموجه لك كم من هولاء الموجودين في قائمة أصدقائك تعرفهم جيدا أو التقيت بهم؟ وكم ستفيدك تلك “اللايكات” خلال الأشهر المقبلة من حياتك؟
أنت تسأل أيضا إذا كان بإمكان الاعتماد على الخمرة كمصدر للاسترخاء والسعادة أو نسيان الآلام؟ وأنا أقول إن الإدمان على الكحول مثل غيره من الإدمانات لا يجلب سوى الدمار والتعاسة، لا يهم إن كان ادمانا
على الكحول أو التدخين أو القمار أو المخدرات( ليس فقط المخدرات المعروفة مثل الكوكائيين او الكريستل مث أو الهيروين أو الماريوانا بل حتى المهدئات والمنومات وقاتلات أو مسكنات الألم) فضلا عن الادمان على الطعام أو الجنس أو مشاهدة السايتات السكسكية أو الحب أو المال أو الشهرة أو السفر أو الإدمان على الناس إلخ من الادمانات. لا توجد سعادة حقيقية في السلوك الادماني مهما كان نوعه، لأن كل ادمان هو فعل ميكانيكي أو آلي، وكل فعل آلي هو فعل مدمر ولا يليق إلا بالمكائن وليس بالإنسان، السعادة الحقيقية تكمن في مواجهة أنفسنا أولا وواقع حياتنا ثانيا بشجاعة وأفعال واعية اختيارية بعيدا عن إمراضية أو قيود السلوك الاجباري أو الاستحواذي. كما أتمنى لك أن تكون يقظا ولا تستبدل ادمانا بآخر أو مجموعة من الإدمانات بإدمانات أخرى. تذكّر أن أي فعل يتسم بالاجبار ويؤثر على الحياة الشخصية للإنسان أو عائلته أو عمله أوعلاقاته بشكل سلبي هو إدمان والعكس صحيح، هذا هو معيارك في التفريق بين السلوك المعافى والسلوك المرضي أو الادماني.
عودة إلى الفيسبوك أنت تنشر صور عائلتك، من يهتم إذا ما تزوج ابنك او ابنتك وأصبح لك أحفاد أو انجبت زوجتك توأمين؟ إن العالم يدور ويتغير في كل لحظة وتدور معه الحياة لا على كوكب الأرض وحده والمجموعة الشمسية التي ينتمي إليها بل حتى مجرة درب التبانة ومجرات أخرى يقول العلم إن عددها الآن أكثر من 500 بليون مجرة، شيئا ليس بوسعنا أن ندركه حتى بخيالنا.. هناك نجوم هائلة الحجم تولد ونجوم تموت ومجرات تندمج ببعضها أو تتلاشى عن الوجود. فكّر بما تقوم به الآن إن كان سينفعك في السنوات الخمس المقبلة من حياتك؟ فإن كان فثابر على عمله وإلا دعه وشأنه.
لذا صديقي العزيز عليك ألا تزور الفيسبوك عدا وقت قصير جدا في أيام متباعدة وإذا ما استطعت أن تغلقه لأسبوع أو شهر أو اكثر لكي تشعر بالسلام وتستثمر وقتك وتطوّر حياتك فهذا أفضل.
أنت تقول حتى الكاتب الفلاني المشهور لديه صفحة على الفيسبوك وأنا أقول لا تركّز على كتابات هذا الكاتب المشهور انما اجعل الأدب العالمي قبلتك وموضع اختيارك ومصدر الهامك بدلا من الكتّاب المحليين، لا بأس ان تقرأ أعمال أصدقائك او كتّاب من بلدك لكن لا تدعها تعميك عن كنوز المعرفة العالمية الحقيقية، أيضا لكي تبعد الشكوك ومقارنة نفسك بهذا الكاتب أو ذاك منهم.. اقرأ لكتاب مرموقين حتى لو كانوا أمواتا جسديا. وأود أن أضيف ان هذا الكاتب المشهور الذي أنت منبهر به قد نال حقه أو أكثر مما
يستحق من التقدير والشهرة والثناء والجوائز والمكافآة المادية وأنت أينك من ذلك؟! الكاتب المشهور الذي تشير إليه أصبح بؤرة أو مركزا لجذب الاهتمام والاعجاب المتواصل على الرغم من أنه مستهلك للأدب العالمي ونتاجه من الدرجة الثانية أو الثالثة أو الرابعة مقارنة برموز وجواهر الأدب العالمي وأنه ليس فاعلا ومشاركا حقيقيا فيه، امنحه ما يستحق من التقدير واثنِ على جهوده التي بذلها لا أكثر من ذلك، ولا تعتبره مصدر الهامك، إنه غير قادر على ذلك كما لا يخفى عليك الأمر. إن عقلنا ليس أكثر من مجموع ذكريات حياتنا، هذه الذكريات هي التي تحكم أفعالنا، لذا أعتقد بأن كل واحد منا له القدرة على تغيير قدره وذكرياته في هذه الحياة.
أعمال الأدباء الكبار الذين تعجب بهم دوماً وتتمنى وتحلم أن تكون واحدا منهم كانت نتاج وقت لافيسبوك فيه ولا تويتر ولا انستغرام ويوتوب أو تلفونات خلوية، وكانوا منضبطين بتخصيص الوقت الكافي للقراءة والكتابة والتفكير، ولم تكن عقولهم فريسة سهلة لاغراءات الحياة اليومية المتعددة كامتلاك المزيد من المال أو الكثير من الاشياء، الاهتمام بهذه الاشياء وجمعها يأتي من عدم الامان ولا يحقق السعادة انما يزيد من الطمع والحسد اللذين هما من ألد الأعداء للسلام والسكينة والاحساس بالسعادة . لذا اقترح عليك أن تعود إلى البساطة في الحياة والاستمتاع بالقراءة في الكتاب الورقي،إنه أكثر صحة لعينيك ولا يرهق دماغك مثل النت وشاشة الكمبيوتر والأضواء المتلاحقة. الانشغالات الكثيرة والرغبات المتنوعة وغير المتحققة تتعب النفس وتمرضها، اقترح عليك أيضا لو تخصص كبداية يوما واحدا في الأسبوع تغلق به تلفونك والتفلزيون والراديو والنت تماما وتتحرر من رغباتك الدنيوية بكل أنواعها وتستمع بعزلتك وأنت تتناول الطعام أو حينما تستحم أو تتحدث مع صديق أو فرد من أفراد عائلتك أو عندما تتأمل وتتسامر مع نفسك.
وافر الاحترام، وأشواقي الشديدة لرؤيتك والحديث معك وجها لوجه..
صديقك
كاظم الحلاق
كاتب عراقي مقيم في أمريكا