بعد انتظار طويل قرر مجلس النواب العراقي التحرك باتجاه فتح ملف استرداد الاموال المنهوبة وتشكيل لجان متخصصة لبخث هذا الملف لتكون اضافة الى ماسبقها من جهود بذلتها هيئة النزاهة في التحري والبحث عن تلك الاموال التي قدرتها بعض التقارير الصادرة عن هيئة النزاهة بحوالي الف مليار دولار امريكي اي مايعادل خمسة اضعاف اعلى ميزانية قررتها الحكومة العراقية في عز فورة اسعار النفط . مع بداية الدعوات البرلمانية بدأت التصريحات التي وان كان اغلبها ينبع من نوايا حسنة الا انها في اغلبها لم تكن مستندة الى استيعاب كامل للمعنى القانوني لعملية استرداد الاموال المنهوبة والجهود الدولية في هذا المجال ومن هذه التصريحات هو اصرار بعض المهتمين بهذا الملف على ربط عملية استرداد الاموال المنهوبة مع ملف ازدواج الجنسية . والسؤال الذي يثار هنا هل يشكل ازدواج الجنسية عائقا امام استرداد الاموال المهنوبة ؟ للاجابة على هذا السؤال يجب ان نفرق بين المشاعر والعواطف وبين القضايا القانونية وان من يتصدى لمثل هذا الملف يجب ان يدرك انه بدون الشكل القانوني الذي يتبع الإجراءات التي من شأنها استعادة تلك الأموال لن يكون بالامكان استرداد أي أموال من تلك التي تم تهريبها الى الخارج وان العواطف لامحل لها في مجال القانون .
في البداية يجب ان نتطرق الى تعريف عملية استرداد الاموال المنهوبة والتي يمكن ان نعرفها بالتالي ( ان عملية استرداد الأموال المنهوبة هي مصطلح يعبر عن مجموعة التدابير القضائية وغير القضائية والجهود المبذولة من الدول لإستعادة الأموال التي نهبت من ثرواتها ومواردها والمتأتية من الفساد والتي هُربت إلى دول أجنبية أو بقيت داخل الدول نفسها وهي المسار الذي يتم فيه تحديد وتجميد وإعادة هذه الأموال للبلدان التي كانت ضحية لهذا الفساد وهي عملية معقدة ومتعددة المستويات) .
توفر اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد (UNCAC) التي بدأ التوقيع عليها في ديسمبر2003 ودخلت حيز التنفيذ في ديسمبر 2005، أول إطار عمل على الصعيد العالمي،لتناول قضية استرداد الاموال المنهوبة ، سواء كان ذلك في الدول النامية أو المتقدمة.
تتميز اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد , باحتوائها عل فصول ومواد هامة جداَ في مجالات التدابير الوقائية من الفساد والتجريم وإنفاذ القانون، والمستجدات التقنية وتبادل المعلومات، وآليات التنفيذ, لكن ما يميزها أكثر هو أنها تضمنت فصلين هامين هما الرابع والخامس، يعالج الأول قضايا التعاون الدولي، والثاني استرداد الموجودات.
إشتمل فصل التعاون الدولي على ثمان مواد من ( 43 – 50)، تحددت فيها بالتفصيل إجراءات وشروط التعاون بين الدول الأطراف، وتسليم المجرمين ونقل الأشخاص المحكوم عليهم، والمساعدة القانونية المتبادلة، ونقل الإجراءات الجنائية، والتعاون في مجال إنفاذ القانون، والتحقيقات المشتركة، وأساليب التحري الخاص.
اشتمل فصل استرداد الاموال المنهوبة على 9 مواد من ( 51 – 59 )، أوضحت بالتفصيل ضوابط والتزامات الدول الأطراف في مجالات: منع وكشف إحالة العائدات المتأتية من الجريمة، وتدابير الاستردادالمباشر للممتلكات، وآليات استرداد الممتلكات من خلال التعاون الدولي في مجال المصادرة،والتعاون الدولي لأغراض المصادرة, والتعاون الخاص، وإرجاع الموجودات والتصرف فيها، وإنشاء وحدة معلومات استخبارية مالية، وإمكانية إبرام اتفاقات وترتيبات ثنائية ومتعددة الأطراف.
تضمنت نصوص الفصلين اعلاه خطوات وشروط التجريم، وتعجل بإجراءات تسليم المجرمين, كما أنها تيسر، بشكل غير مسبوق، عمليات التحري والملاحقة للمتهمين بجرائم فساد، إضافة إلى تأكيدها وتحديدها لأشكال المساعدة القانونية المتبادلة بين الدول الأطراف.
وفي مجال التصرف والانتفاع بالأموال التي قد تكون متأتية عن جرائم فساد، احتوت المواد نصوصاً بإجراءات أكثر تشدداً لضمان كشف هذا النوع من الأموال ومكافحة غسيلها.
أما المواد الخاصة بتدابير وآليات استرداد الممتلكات فتضمنت نصوصاً صريحة بإلزام الدول بتسهيل وتعجيل إجراءات إنفاذ القانون, بما فيها إجراءات المحاكم، إضافة إلى توسيعها وتحديدها لأنماط التعاون بين الدول في مجال المصادرة وإعادة الموجودات إلى مالكيها الشرعيين.
ومن خلال الاستفادة مما تضمنته نصوص مواد الفصلين المذكورين ونصوص العديد من المواد الأخرى التي تكفل للبلدان النامية قدراً كبيراً من المساعدات التقنية وتبادل المعلومات مع البلدان المتطورة لتنفيذ خططها الرامية لمكافحة الفساد… من خلال ذلك كله تصبح مواد اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد -إذا ما تكاملت المقومات والآليات الوطنية والدولية لإنفاذها- أهم سلاح يمكن استخدامه في مكافحة الفساد على صعيد تحويل الأصول المتأتية من مصادر غير مشروعة وإعادتها إلى بلدانها الأصلية, بما في ذلك مكافحة غسل الأموال ذات المصدر غير المشروع والناجمة عن أعمال الفساد، و منع تحويلها و/ أو إجراء معاملات بشأنها، ومكافحة ما يرتبط بذلك من أشكال أخرى للفساد والجريمة المنظمة والجريمة الاقتصادية وغيرها.
حددت هذه الاتفاقية الآليات اللازمة لاسترجاع الأموال المنهوبة التى تم تهريبها للخارج وأنه إذا ثبت الاتهام في حق المتهم وصدر حكم قضائى بمصادرة الأموال المنهوبة، يتقدم الادعاء العام بطلب للأمين العام للأمم المتحدة لإعادة هذه الأموال إلى الدولة المطالبة باستعادة اموالها وفقا للاتفاقية وهذا يتضح من خلال المواد 54 ، 55 ، 57 .
كما نصت المادة (3) من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد على مبدأ إرجاع العائدات المتأتية من الأفعال المجرمة وفقا للاتفاقية ، كما نصت في المادة رقم 31 منها على” ضرورة مصادره العائدات الإجرامية المتأتية من أفعال مجرمة أو الممتلكات التي تعادل قيمتها قيمة تلك العائدات” ويقصد بذلك نزع ملكية الأموال التي تحصل عليها المجرم من إحدى جرائم الفساد ونقل ملكيتها إلى الدولة وذلك مثل الأموال التي اختلسها الموظف أو مبلغ الرشوة الذي حصل عليها، وكذلك أيضا نزع ملكية ممتلكات المجرم والتي تعادل قيمتها قيمة ما تحصل عليه من عائدات إجرامية وذلك إذا ما تصرف هذا الأخير في تلك العائدات كمصادرة سيارته الخاصة ومجوهراته وعقاراته، كما نصت أيضا تلك المادة على” مصادرة الممتلكات أو
المعدات أو الأدوات الأخرى التي استخدمت أو كانت معدة للاستخدام في ارتكاب أفعال مجرمة وفقا لهذه الاتفاقية” .
وقد توسعت الاتفاقية في نص المادة 31 سالفة الذكر لمحاولة محاصرة العائدات الإجرامية ومصادرتها ومنع أي تلاعب قد يحدث لتغير صورتها وتضليل الوصول إليها ولكن يعيب عليها إنها قد نصت على إمكانية مصادرة المنافع المتحصلة من تلك العائدات على الرغم من استحالت ذلك من الناحية الواقعية والقانونية انا لم تكن تلك المنافع ذات طابع مادى .
ولم يكتفي واضعي اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد على ذلك بالنسبة لعلاج الضرر المادي للجريمة (باسترداد الموجودات) بل قد خصصوا الفصل الخامس منها لذلك الشأن واستهلوه بالتأكيد على أن استرداد الموجودات هو مبدأ أساسي في هذه الاتفاقية وعلى الدول الأطراف أن توفر أكبر قدر من التعاون والمساعدة في هذا المجال،كما ضمنوه آليات استرداد تلك الموجودات وطرف التعاون الدولي في هذا الشأن
وبمراجعة التجارب العالمية في مجال استرداد الاموال المنهوبة الناجح منها والفاشل ثبت ان انجع الطرق في هذا المجال هي اقامة دعاوى امام المحاكم في الدول التي يتم تهريب الاموال اليها بعد اثبات الادانة امام المحاكم الوطنية وطرق الضغط الدبلوماسية والاستعانة بالشركات المتخصصة في التحري وجمع المعلومات بالاضافة الى الاستعانة بالجهود الشعبية في متابعة تلك الاموال من خلال تفعيل جهود منظمات المجتمع المدني .
بالعودة الى السؤال الذي بدأنا به موضوعنا وهو اثر ازدواج الجنسية في جهود استرداد الاموال المنهوبة يجب ان نوضح ان من ينادي بان ازدواج الجنسية يعرقل جهود استرداد الاموال المنهوبة يخلط بين ملفين مختلفين وهما استرداد الاموال واسترداد الاشخاص . فالجنسية الثانية تعتبر عائق كبير امام استرداد الاشخاص المتهمين بجرائم حيث ان الدول تمتنع عن تسليم مواطنيها وخصوصا الى الدول التي لايوجد معها اتفاقيات استرداد اشخاص وحتى في هذه الحال فان هذه العملية تخضع لاجراءات معقدة وتتداخل فيها مسائل تتعلق بالقوانين الداخلية للدول وفي بعضها تتعلق بالاتفاقيات والمواثيق الدولية لحقوق الانسان . اما بالنسبة للاموال فان الاتفاقيات الدولية لاتمنح نفس الحماية للاموال المتحصلة من جرائم وعمليات فساد مالي او اداري حتى وان كانت عائدة لاشخاص يحملون جنسية الدولة ولكن هذه العملية تصطدم بمسائل تتعلق بالتحري والاثبات .
في النهاية يجب ان نؤكد مرة ثانية ان عملية استرداد الاموال المنهوبة ليست بالعملية السهلة او قصيرة المدى وانها تتطلب بالاضافة الى النيات الحسنة جهود وخبرات يجب ان تجتمع لتحقيق الهدف المنشود .