لست ناقدا .. لكن بعض الأعمال الأدبية الكبيرة ترغم القارئ أحيانا على الوقوف عندها و الكتابة عنها و لو يسيرا..
شرق المتوسط ، للروائي الكبير (عبد الرحمن منيف) ، هذه الرواية الرائدة التي كتبت قبل ما يقارب أربعة عقود ، وعالجت موضوع التعذيب في سجون الأنظمة العربية الدكتاتورية ، هي واحدة من هذه الأعمال الكبيرة..
ليس في الرواية أحداث كثيرة و لا حبكة معقدة.. فهي تتحدث عن شاب عنيد و مندفع يدخل السجن نتيجة لنشاطه السياسي ، و يظل صامدا فيه لمدة سنوات ، لكنه ينهار بعدها بسبب الضغوط النفسية و الجسدية و المرض الذي ينهش أعضاءه ، فيخرج من السجن بعد التوقيع على التنازلات التي تمليها عليه عناصر الحكومة ، بيد أنه يخرج منكسرا غير فرح بالحرية الزائفة التي نالها ، ليعيش حالة من الصراع النفسي الشديد ، و تأنيب الضمير على لحظة الضعف تلك ، و يظل شبح إستسلامه يلاحقه في كل موقف ، و هنا تكمن برأيي براعة المؤلف الذي أخذ القارئ الى جولة في أعماق هذه النفس بكل عذاباتها التي تتماهى مع عذابات العالم الخارجي و إضطهاداته و قمعه ، و إن كان عذاب العالم الخارجي يبدو هامشيا قياسا بالعذاب الداخلي الذي يعيشه البطل نتيجة ذلك الشعور المرّ بالهزيمة …لقد صوٓر المؤلف ذلك بمهارة تذكّرنا بطريقة (دستوفسكي) السيكولوجية عندما تناول ذات الموضوع في رائعته الجريمة و العقاب ، و هو الندم و تأنيب الضمير على الجريمة التي إرتكبها بطل النسخة الروسية و إن كان الفرق بين الدوافع إلى الندم في الحالتين كبيرا.
لقد وقع البطل أخيرا و تحت تلك الضغوط الهائلة التي تعرض لها ، ضحية لخدعة النفس المتخاذلة و تبريرها الزائف للإستسلام و (الخيانة) كما يسمّيها هو و رفاقه ، و هاهو يصف نفسه بأنه (كان قويا في فترة ما ، ثم سقط.. إنهار دفعة واحدة).. وهنا يقف المرء ليتساءل: لماذا قُدّر لهكذا إنسان أن يوضع على هذا المحكّ المجنون ، الذي يجعله بين خيارين مغرقين في القسوة ؛ فإما أن يخسر حياته و إما أن يلوّث شرفه؟
و يرسم المؤلف بإتقان بالغ صورة ذلك الكابوس الذي يسمّيه الشاطئ الشرقي للمتوسط ، عن طريق خواطر بطله (رجب إسماعيل) ، فالكتب التي يراها بالملايين على ضفاف السين لا تستدعي إلى ذاكرته غير مشاعر الخوف لأنها تعتبر (أدوات جُرمية) ووسائل إدانة في ذلك السجن الكبير ، و في خاطرة أخرى يتوجه بالسؤال مخاطبا هذه الأرض ، عندما يشاهد الناس في أوروبا -الشاطئ الآخر للمتوسط – يشيخون ثم يموتون في هدوء و سلام بعدما يسأموا تكاليف الحياة :
(و أنت يا بلاد الشاطئ الشرقي ، لماذا لا تتركين بَشَرَكِ يصلون إلى سن الشيخوخة؟)…
و تصل السخرية المرّة إلى أقصاها عندما يحذره الطبيب الأجنبي من خطر الإنفعالات الزائدة ، كالفرح ، على صحته ، إذ أن (الفرح هو طائر مهاجر بالنسبة لشعب سجين ، و من يموت من الفرح على ذلك الشاطئ ؟؟)… ذلك الفرح الذي لا يناله ، بحسب المؤلف ، حتى الجلاوزة ، الذين ينامون على أصوات صرخات ضحاياهم و تسكنهم هواجس الخوف من الإنتقام المحتمل لهؤلاء الضحايا يوما ما..
وهنالك أم البطل… تلك المرأة الكادحة التي تحملت الكثير من المعاناة لتربية أبناءها ، وكانت تتمنى من إبنها تجنب العمل السياسي إيثارا منها لسلامته ، لكنه حينما تورط به بالفعل ، و صار إنسانا ذا قضية ، وقفت لتسانده و تحارب لحظات الضعف التي يمر بها ، لتعصمه من خيانة قضيته وتدنيس شرفه بالتنازل لجلّاديه رغم الثمن الباهظ الذي يقتضيه ذلك..
و يقّدم لنا المؤلف شخصية أخرى من نوع مختلف تماما ، تلك هي (أنيسة) أخت البطل ، و هذه الشخصية هي أنثى ضعيفة وعاطفية على عكس الأم الصامدة القوية… هذه الأخت ، بضعفها و عاطفتها الأنثوية الرقيقة و تخذيلها لأخيها عند زياراتها المتكررة له في السجن ، هي من عجّلت بأنهياره ، ثم وقعت في حيرة كبيرة عند محاولتها التخفيف من آلامه بلا جدوى… و يأخذ المؤلف بيد القارئ ليطلعه ببراعة على دواخلها و يجعله يعيش عواطفها ، ثم يصوّر له كيف تحولت تدريجيا مشاعر هذه الأخت تجاه أخيها بعد سفره ، من الشفقة و الإشتياق إلى الملل و الضيق و التبرّم من تصرفاته ، نتيجة المضايقات الشديدة التي بدأت العائلة تعاني منها بسبب نشاطه المتمرد على الحكومة خارج البلاد..
ينتصر المؤلف في نهاية الرواية لفكرة أن الإرادة لا تموت ، و أن الشعب سينتصر في خاتمة المطاف ، و ذلك بتحول (حامد) صهر البطل من موقف اللامبالاة و السلبية و الإنزعاج من دفع ضريبة العمل السياسي لغيره ، الى موقف التحدّي و الثورة ، ليصبح مشاكسا متمردا كصهره ، و تخبرنا (أنيسة) بذلك فتقول: (فرجب و هو يسافر يودع روحه التي حاصرها خلال سنوات السجن في (حامد)… لا أظن أنهما تحدثا أو إتفقا على شئ ، فهؤلاء الرجال يفهمون بعضهم بطريقة سرّية و غامضة)..
و نشاهد أخيرا إنبعاث (رجب) و نهوضه من كبوته بعد رحلة السقوط التي عاشها ، و إستعادته لإرادته و عناده و تحدّيه لسجّانيه ، بعد صراع مرير مع الذات ، ليعمل بنصيحة ذلك المناضل القديم الذي ألتقاه في بلاد الغربة ، الدكتور (فالي) ، الذي أوصاه بأن يتعلم الحقد على جلّاديه كي يحارب ، و لا يستسلم للحزن الذي من شأنه أن يهزمه كإنسان و قضية ، فيعود إلى بلده طائعا مختارا ، مليئا بمشاعر التحدّي ، وهازئا بالجلاوزة الحاكمين ، ليكمل طريقه الذي بدأه ، و ليذلّ هؤلاء الجلاوزة ، و ينتصر جسده على سياطهم في النهاية…
إنها بالفعل رواية مذهلة ، وشاهد على حقبة من أبشع الحقب في تأريخنا ، و أكثرها إنتهاكا لحقوق الإنسان ، و لئن مثّلت متنفسا لقراءها في عهد القمع و الإستبداد ، فهناك أيضا حاجة لقراءتها بعد زواله ، من أجل الكفاح للحفاظ على الحرية و كرامة الإنسان…