23 ديسمبر، 2024 1:15 ص

“سوريــا” الحبيبة بيــن أذرع تـنـّــين

“سوريــا” الحبيبة بيــن أذرع تـنـّــين

بينما ينتظر العالم كله يوم (الجمعة29/1/2016) موعداً لإنعقاد محادثات “جنيف-3″، فإن جلّ المتابعين يرون أنها سوف لا تؤول -أسوة بزميلتيها السابقتين “جنيف-2,1″ اللتين لم تتمخضا سوى عن قرارات فضفاضة لم تـُسمِن ولم تـُغـْنِ عن شيء، بل أن الحرب الأهلية -التي إن جاملنا الأدب السياسي لأسميناها ب”الحرب الداخلية”- تواصلت وتضاعف عدد الفصائل المسلحة وتدفقت الأسلحة عليها وأُغْدِقـًت المليارات وجُيِّرَ معظمها في جيوب قادتها، فيما تطايرت الجثث وزُهِقـَت أرواح الآلاف من المسلحين إلى جانب الألوف من المدنيين الأبرياء الذين أمسوا بين مطارق هذا الطرف وسنادين آخرين، وتجاوز أعداد النازحين والمهاجرين والـمُهَجّرين (8) ملايين على نحو لم يعرف التأريخ الحديث والمعاصر مثيله وفقاً لتقارير الأمم المتحدة ومنظمات دولية مرموقة.

وفيما لم تستطع القوات النظامية السورية والفصائل المسلحة التي شكّلتها من الفتيان والصبايا -رغم دخول “إيران” على الخط بحرسها الثوري والدعم بالسلاح والمال، وتدفق حشود المتطوعين إلى أرض “بلاد الشام” تحت شعار حماية المراقد المقدسة، وإشراك مقاتلي “حزب الله اللبناني” بحجة الدفاع عن “لبنان”- من إستعادة سيطرتها على ما يبلغ (ثلث) البلاد وإغلاق حدودها الواسعة حيال ما يسمَّونَ بـ”الإرهابيين”، فقد إنبثق “د.ا.ع.ش” إلى الوجود مكتسحاً محافظات عديدة في الشطر الشرقي من “بلاد الشام” في غضون شهرين قبل أن يمتدّ -بين عشية وضحاها- ليستحوذ على المحافظات الغربية وبعض الوسطى من “بلاد الرافدين” مُلغِياً حدوداً برية بواقع (600) كلم بين البلدَين الجارَين المتعاونـَين للحفاظ على نظامَيهما السياسيَّين… فبينما تدخل “طيران التحالف الدولي” بزعامة “واشنطن” بضربات محدودة وهزيلة من دون أن يقدر على تحقيق شيء يُذكَر، فقد إندفعت الفصائل المعارضة السورية خلال عام (2015) لتـعزز سطوتها في أرياف “اللاذقية ودمشق” عازمة الإجهاز النهائي على تلك المدينة الساحلية المهمة والعاصمة معاً، عندئذ أفاقت “موسكو” وقتما رأت أن موطئ قدمها الإستراتيجي اليتيم وقاعدتها البحرية الوحيدة في “طرطوس” ووسط جميع بقاع البحر الأبيض المتوسط قد باتت في خطر

محدق، وأن التسهيلات التي توفرت لأساطيلها من لدن دول عربية عديدة مطلة على مياه ذلك البحر إبان العهد السوفييتي قد باتت شيئاً من التأريخ القريب، حتى أطل علينا وزير الدفاع الروسي “المارشال سيرغي شويغو” مطلع شهر (ت1/أكتوبر/2015) مُستبشراً بإنطلاق أولى الطلعات الجوية الروسية في السماء السورية إقلاعاً من قاعدة “حميميم” جنوبيّ “اللاذقية”، طارحاً مجموعة مبالغات عن عظمة قواته وإقتدارها لمحو جميع المعارضين للدولة السورية في (ثلثي) البلاد خلال (4) أشهر فحسب بضربات ماحقة وإنزالات مظلية نوعية غير مسبوقة!! في حين لم يَنـْسَ أن يـُعَرِّج نحو “العراق” كذلك زاعماً -وجل إعتقادي أنه كان منتعشاً بـ”الفودكا”- إقتدار قطعاته على إعادة كامل محافظتي “نينوى والأنبار” خلال ((أسبوعين فقط)) بقصفات جوية تمهد لتقدم القوات العراقية وأبناء العشائر على محاور عديدة للإجهاز على “داعش” وإمحاءه من الوجود!!!!!

والآن وخلال (4) أيام فقط ستنقضي (4) أشهر -وفقاً لوعد المارشال الروسي- على بدء العمليات الجوية الروسية العنيفة للغاية والعشوائية، وإلى جانبها الطيران السوري الذي لم يبخل في الشأن ذاته، ولكننا نستشعر بالتحركات الميدانية للقوات البرية السورية -بجميع مسمّياتها- وكأنها تراوح في مواضعها من دون أن تستحصل هدفاً ذا أهمية عالية، سوى ما تطلق عليه وسائل الإعلام السورية الحكومية وتلك المؤيدة لها لفظة “إستراتيجي”، بينما تتوارد الأنباء عن نزول قوات خاصة روسية في قاعدة “حميميم” من دون إعلان الغرض من جلبها، وبُعَيد أيام فقط من نشر الولايات المتحدة طلائع الفرقة/101 المحمولة جواً على أرض “العراق” وشمالي “الحسكة” السورية.

وفي هذا الخضم تصاعدت التصريحات عن وجوب عقد مباحثات جديدة تحت راية الأمم المتحدة، وبحضور ممثلي العديد من الدول المتنوعة ذات الأغراض المختلفة، إبتغاء تقريب وجهات النظر بين الحكومة السورية وفصائل المعارضة بمختلف توجهاتها السياسية ومصادرها التمويلية وتنوعاتها التسليحية وإسناداتها الإعلامية وإرتباطاتها الإقليمية والمناطقية والدولية!!!!

فإلى أين تسير “سوريا” الحبيبة وفقاً للحقائق الآتية:-

1. “الدولة السورية” تضاءلت سيادتها وتدنـّت قدرتها على إتخاذ القرارات المصيرية، وإضمحلت قابليتها على مسك زمام الحكم وتسيير حياة مواطنيها اليومية ودعم (8,000,000) نازح

يعانون مرّ العلقم داخل البلاد وخارجها، وبات مصيرها بيد أصحاب القوى الأعظم والأموال الـمُغدَقة الذين باتوا يقترحون ويطرحون أفكاراً -على هواهم- بغية فرض حلول قد تتضمّن في إحدها مبدأ الحفاظ على “سوريا الموحدة” ونظام الرئيس “بشار الأسد” الذي يبدو ما زال متشبثاً بالسلطة تحت ذريعة أن الشعب السوري هو الذي يقرر مصيره، ولكن من دون أن يوضح بماذا؟؟ وكيف؟؟

2. “الدول الأربع العظمى” المتدخلة جهاراً بالشأن السوري لا ترى -بالطبع- سوى مصالحها، فواحدة تجرّ بالطول والثلاث الأخريات بالعرض، لتنفرج زوايا الخلافات الحادة فتصبح المحصلة (صفراً)… ولم تستطع حتى الإتفاق على مجرد إعداد قائمة تحدد ما هم يطلقون عليه بـ”المعارضة المتطرفة” و”المعارضة المعتدلة”، وأي فصيل يُدعى للمؤتمر وأي آخر يُستـَبعَد؟؟؟؟ فضلاً عن طرحهم وجوب إجراء المفاوضات بشكل غير مباشر بين وفد الدولة السورية والشخوص التوافقيين الذين سيمثلون “المعارضة المعتدلة”.

3. “الدول الإقليمية” كل يمتلك رؤية لذاتها، وفي أفضل الأحوال تتبع نهج إحدى الدول العظمى أو تزيد، وهي متناقضة في مواقفها بواقع (180) درجة… في حين نرى هذه تهدد بمقاطعة المباحثات، وثانية تصرخ بعدم الحضور، وثالثة حائرة تلتزم الصمت حتى الرمق الأخير لحين إنجلاء مواقف الكبار.

4. “الفصائل المسلحة المعارضة” -التي إستبشر البعض بتشكيل “الجيش السوري الحر” عام (2011)- تشتـّتت حتى بلغ تعدادها العشرات، وتقطـّعت أوصالها فأضحت تتكتل لمناحرة المعارضين الآخرين، أو إنفردت لتتصارع لأجل الإستيلاء على هذه المنطقة الغنية وتلك الحقول النفطية، ولم يعد معظم الأطراف غير السورية ترى فيها نفعاً لمستقبل البلاد… وجميع قادتهم -بلا إستثناء- غدوا غير محترمين أمام ناظرَي كل العالم.

5. “الخلاف السعودي-الإيراني” الأخير أضاف معضلة أخرى حيال هذه المباحثات المزمعة، فرغم التصريحات المتنوعة ذات الصبغة الدبلوماسية/الآتيكيتية فإنه سيقذف بضلالها على “جنيف-3” من حيث إصرار أحدهما على طروحات الآخر، إلى جانب إنعدام التنسيق أو التشاور بين وفدَي الدولتين المؤثرتين على الأزمة السورية والمنطقة الشرق-أوسطية.

6. “تركيا” تهدد بعدم التوجه للمفاوضات إن دُعِيَ إليها “الإتحاد الديمقراطي الكردي-السوري”، خشية أن يشكّل الأكراد السوريون المتاخمون لأكراد الجمهورية التركية كياناً شبيهاً بـ”إقليم كردستان العراق” يـُجاور بقاعاً من جنوب-شرقي “تركيا” فتـُصَعّد لديهم مشاعر قومية تحبّذ “تركيا” النأي عنها في المستقبل المنظور.

7. “داعش” لم يُحسَب له أي حساب ولم يُذكَر إسمه في جميع التصريحات ذات العلاقة بالمؤتمر، وكأن لا وجود له ولا يستحوذ على حوالي (ثلث) سوريا -ناهيك عن “العراق” الـمَنسي- وقد أعلن “دولة خلافة” وسط مساحة تبلغ أضعاف “بريطانيا وفرنسا وآلمانيا”… فالحديث عنه مؤجّل في “جنيف-3”!!!

8. “إسرائيل” هي الوحيدة المسترطبة من وراء دمار “سوريا” وخرابها ومصرع مئات الألوف من جنودها ومدنييها وخراب مؤسساتها العسكرية والأمنية والإدارية والخدمية وإقتصادها وتقطـّع أوصال مخابراتها وإخراجها من حسابات “تل آبيب” الإستراتيجية، ومن دون أن يطلق “جيش الدفاع الإسرائيلي” طلقة واحدة أو يصرف دولاراً واحداً من خزينته.

9. وبالنتيجة يبدو أن السيد “بان غي مون” ومبعوثه الشخصي السيد “دي ميستورا” هما الوحيدان المستأنسان بإنعقاد مباحثات “جنيف-3” بعد أن أخفقا طيلة ما يزيد على (4) سنوات من تحقيق شيء ما للحد من الأزمة القائمة في “سوريا” منذ ما يقارب (5) سنوات عُجاف، ولا يبتغي الأمين العام للمنظمة العالمية أن تؤول جهود “دي ميستورا” لما آل إليه سلفه “كوفي عنان” وقتما إحترم ذاته وإعتذر وقدّم إستقالته بعد إنقضاء عام واحد من تكليفه، حين إستشعر أنه لا يقتدر على عمل شبه مستحيل وسط هذه التناقضات والتعاكسات والتضاددات.

10. لكل ذلك وسواه، فإن “جنيف-3” سوف لا تتمخض عنها نتائج أفضل من سابقتـَيها، وأكبر الظن أن تكون هناك “جنيفات-6،5،4″، إلاّ إذا وقعت معجزة إلهية في زمن إنعدمت فيه المعجزات، وسيستمر الصراع العنيف والقتال الدامي وخراب المدن ودمار الممتلكات في المستقبل المنظور… فلا “الدولة السورية” من الإقتدار بحيث تحقق إنتصاراً كاسحاً، ولا “المعارضة المعتدلة” بمقدورها إنهاء النظام القائم والقضاء على خصومها… ولا “المعارضة المتطرفة” بإمكانها تحقيق نصر يُنهي أعداءها… ولا “داعش” يستطيع التمدد أكثر مما هو عليه… ولا “روسيا الإتحادية” ستحقق أفضل مما حققت… ولا “التحالف الدولي” قادر على تغيير الواقع الميداني حتى إذا أقحم

قوات برية في الأرض السورية، والدليل على ذلك ما آل إليه كل من “العراق” خلال (2003-2011) ولحد يومنا هذا وكذلك “أفغانستان” منذ (2001) ولغاية كتابتي لهذه السطور.

فهل من حقنا أن نقول ((أن مصير “سوريا” قد بات ليس على كف “عفريت” فحسب… بل بين أذرع “تنـّين”))؟؟؟!!!