19 ديسمبر، 2024 7:05 ص

المنطلقات الفكرية للتيار العربي الاسلامي في معالجة الانهيارات المجتمعية العربية

المنطلقات الفكرية للتيار العربي الاسلامي في معالجة الانهيارات المجتمعية العربية

في وقت الازمات تظهر تيارات فكرية تبحث في الهوية الحضارية. ففي العقود الستة الاخيرة، ظهر التيار الاسلامي الذي عبر عن خصوصية وعن مضمون اشكالية التغيرات والتحولات التي مر بها المجتمع العربي . وتجسد هذا التيار في شكل حركات اجتماعية مسيسة معارضة تقدم التراث والثقافة الاسلامية كبديل لما هو مطروح في الساحة وكتعبير عن النظام المتعارف عليه في المجتمع.

فالتيارات والحركات الفكرية تعبر عن واقع وتاريخ المجتمع، وتفسير نشوء ونمو تلك التيارات والحركات يحتاج الى معرفة واقع وتاريخ المجتمع، كما يحتاج الى معرفة الخلفية الفكرية والسياسية والاجتماعية لممثلي هذه الحركات والتيارات ، بمعنى آخر –ان التحليل المجرد للتيار الاسلامي كفكر وكحركة بمعزل عن واقعه الاجتماعي وتاريخه يؤدي الى الزعم بأن المضمون الفكري للتيار الاسلامي ثابت ولا يتغير.

والواقع، ان هناك بعضاً من النماذج الفكرية للاسلام عبر المراحل التاريخية المختلفة تؤكد مصداقية هذا القول. فرغم ان المقولة او الاطروحة الاساسية للفكر الاسلامي هي الاسلام العقيدة، والاسلام الثقافة والحضارة، الا ان كلاً من الفكر الاسلامي الاصلاحي –في القرن التاسع عشر- وفكر التيار الاسلامي الحالي قد سعيا الى انتقاء بعض مقولات الفكر الاسلامي التي تتلائم مع الاطار والحدث التاريخي لمجتمع كل منهما، والى التعبير عن ازمة واحتياجات المجتمع، ولذلك اختلف كل من التيارين، كما اختلفت المقولات المحورية لكل منهما طبقاً لاختلاف المتغيرات المجتمعية. بمعنى آخر، اختلف التياران الاسلاميان –عبر مراحل التاريخ- في مضمونها لاختلاف المتغيرات والمحددات المجتمعية التي افرزتها عمليات التطور والتغيير التي مر بها المجتمع.

فالفكر الاسلامي الاصلاحي كان عبارة عن نداء سياسي يستند الى تفسير مثالي للعقيدة الاسلامية، ولان الفكرة الاسلامية كانت تسعى الى استعادة السلطة الاسلامية، فانها لم تكن تلجأ الى العنف بل تمسكت بأهداف الاخوة التي تجمع كل المسلمين في اطار الواقع الاجتماعي واحتياجاته في ذلك الوقت الى بعض الاوجه الاصلاحية فقط.

والفكر الاسلامي يعبر عن خصوصية المرحلة وعن مضمون التغييرات والمشاكل التي ادت الى افراز هذا النوع من الفكر الذي تجسد في شكل حركات اجتماعية مسيسة معارضة، تقدم الدين الاسلامي كبديل ايديولوجي لحل مشاكل المجتمع، ولجوء بعض هذه الحركات منذ النصف الثاني من عقد السبعينات من القرن الماضي، الى استخدام العنف والمواجهة مع السلطة، تعبيراً عن اغترابها عن السلطة والمجتمع، وعن بحثها عن انتماء خارج نطاق المجتمع، لتجد السند والمبرر لدوافعها في اقامة الدولة الاسلامية على اساس ديني، تطبيقاً لفكرة الحاكمية لله.

وهنا يجب التنويه الى ضرورة التمييز بين التيار الديني الذي ساد مجتمعاتنا العربية في السنوات الاخيرة بصفة عامة وبين الحركات الدينية ومنها الاكثر تحدياً داخل هذا التيار او ما أسميها بالصدامية.

فرغم ان هناك قواسم مشتركة بين هذه الجماعات الا انه يمكن اعتبار كل منها حركة محددة داخل التيار الاسلامي الحالي الذي يتميز بفكر موحد الروح وان تباينت مظاهره او اختلف مفكروه في مذاهبهم وارائهم الفقهية، واذا اتفق على ان لفكر التيار الاسلامي علاقة بالواقع الاجتماعي.. فأن السؤال الذي قد يطرح الآن: هل مضمون فكر التيارات الاسلامية كان حقيقة شاملاً في تعبيره عن الاحتياجات والتحديات الحقيقية للسياق الاجتماعي؟ وهل تفاعل المجتمع تفاعلاً حقيقياً مع المضمون المعرفي للفكر وللحركات الاسلامية؟

ان المضمون الايديولوجي (الفكري) للتيار الاسلامي لا يعبر تعبيراً كاملاً وشاملاً عن احتياجات السياق المجتمعي. فالتيار الاسلامي لا يختلف في درجات تعبيره عن الاحتياجات الحقيقية، فنحن نعتقد انه لا يوجد تيار فكري يعبر تعبيراً كاملاً عن احتياجات وتحديات الحدث والسياق المجتمعي، كما انه لا يوجد تيار فكري آخر لا يعبر عن أية احتياجات او تحديات حقيقية للسياق المجتمعي، وانما توجد درجات في التعبير والتفاعل بين التيار الفكري والحركة والمجتمع، وان نماذج التيارات الفكرية تختلف فيما بينها، في تفاعلها وتعبيرها عن الواقع المجتمعي.

فمصداقية المضمون الفكري والحركي للتيار الاسلامي الحالي، محصورة في الادراك الجزئي لأزمة المجتمع العربي، وفي التمحور حول رفض المجتمع والسلطة دون طرح الاطار المتكامل الذي يحوي الحل الجذري لازمة المجتمع، اذ لا يكفي رفض السلطة والمجتمع لاقامة دولة اسلامية في المجتمع الذي مر بالعديد من تجارب التغييرات المجتمعية السريعة منذ عقد الخمسينات. بمعنى آخر- ان التيار الاسلامي كفكر وكحركة يتواءم مع ازمة الحدث المجتمعي الحالي على مستوى السلوك المتجسد في تجييش وتجنيد بعض الشباب لرفض المجتمع والسلطة.

واهتمام هذه الفئة –الشباب- ولا سيما المتعلم بالفكر الاسلامي وقيادته الحركة الاسلامية- منذ عقد السبعينات –دون الشرائح العمرية الاخرى، يعني ان هناك فجوة زمنية سابقة اجهض فيها شبابها المتعلم من ممارسة الفكر والعمل السياسي والاجتماعي. وتجسد الاجهاض في جمود تلك الشريحة وسلبياتها في ممارسة الفكر والعمل السياسي والاجتماعي، في الفترة اللاحقة فترة السبعينيات التي سمح فيها بقدر من الحرية والديمقراطية النسبيتين، في بعض الاقطار العربية.

ومن ناحية اخرى، استعمل هذا الشباب المتعلم للجماعات الدينية، قدر الحرية المسموح به في طرح ايديولوجيتهم على المجتمع، في الوقت الذي عجز فيه شباب عقد الستينيات المتعلم –شباب الفترة السابقة- عن استغلال قدر الحرية والديمقراطية الذي اتيح في فترة السبعينات، لعدم تمرسهم العمل السياسي والاجتماعي نتيجة اجهاض طاقاتهم.. فأدى ذلك الى ظهور شريحة الشباب المتعلم المثقف نسبياً في العمل السياسي دون الشرائح العمرية الاخرى التي قد تقدم بها العمر في السبعينيات…

كما ان الشباب المتعلم اليوم الذي ينضم الى الجماعات الاسلامية لا يعبر عن مصالح طبقة او شريحة اجتماعية وانما يعبر عن اهداف قطاع من قطاعات المجتمع افرزته الطبقة المتوسطة التي اتسعت في فترة الستينات فترة التغيرات المجتمعية الجذرية.

بمعنى آخر –ان الشباب العقائدي المتعلم/ المثقف اليوم، هو روافد الطبقة المتوسطة التي اتسعت قاعدتها في فترة الستينيات. ولذا نعتقد انه اذا لم تكن قاعدة الطبقة المتوسطة قد اتسعت في هذه الفترة، لما ظهرت هذه النوعية من الشباب العقائدي. وكان المتوقع ان يتبلور اي فكر معارض بواسطة الصفوة المثقفة التي تعبر عن مصالح الطبقة المتوسطة قائدة حركة التغيير في فترة الستينيات.

ومع ذلك، فان التيار الاسلامي اقتصر بشكل عام الى الاطار المتكامل لحل ازمة السياق الاجتماعي نتيجة لتركيزه على الابعاد الثقافية. فلقد تمركز في مخاطبة الابعاد التقليدية من الثقافة، واعتمد في بعض اطروحاته الاخرى على اسلوب الشعائر الدينية. بمعنى انه ركز على البعد الاخلاقي للاسلام كمحور اساسي في مواجهة ازمة المجتمع وتحدياته. وقد يرجع ايضاً الى الثبات النسبي لمضمون الحركة الاسلامية الحالية، بمعنى ان السياق الاجتماعي قد يظل في حاجة –لمرحلة ما- الى نفس مضمون فكر وحركة التيار الاسلامي التي كانت مطروحة من قبل، ولكن محددات ثبات مضمون التيار الاسلامي مشروطة باستمرارية احتياج السياق المجتمعي الى نفس المضمون الذي لم يستهلك بعد. وما زال يوظف التوظيف الصحيح في اطار الفكر والحركة. فالتيار الاسلامي ما زال في حاجة الى طرح وتأكيد مضمون الاطروحات التي تؤكد رفض السلطة والمجتمع، ودحض اطارهما، وذلك لاستمرارية ازمة المجتمع الفكرية، ولاستمرارية عجزه عن مواجهة تحدياته الداخلية والخارجية من وجهة نظر التيار الاسلامي الحالي.

والسؤال الذي قد يطرح للمناقشة الآن: ما الاسباب التي قد تؤدي بالبعض الى نقد ودحض استمرارية المضمون المعرفي لايديولوجيات الحركات الاسلامية والسياسة الثورية في المجتمع العربي، رغم ان السياق الاجتماعي مازال، ضمن مرحلة تطوره الحالية في حاجة الى هذا المضمون المعرفي؟

والتعرض لهذا السؤال يعني التعرض للمعنى المراد من مصطلح (اسلام) ويمكن ان نقول: ان للاسلام معاني متعددة تتجسد في:

الاسلام الديني –ومظهره السلوكي هو العبادات التي شرعها القرآن وليس من حق اي فرد ان يبدي رأيه فيها. ان العبادات حق الله على عباده ولا مجال فيها لفتوى فرد. فلقد اوصى القرآن النبي بعدم تحريم ما أحل الله له، وبتأكد ذلك في قوله تعالى “يا أيها النبي لِمَ تحرم ما أحَلَّ الله لك”.

اسلام الثقافة والحضارة- انبثقت عن الاسلام فلسفة لتشريع المسألة الاجتماعية ولكنه لم يضع تشريعاً مقنناً فاكتفى بوضع المعايير التي تفصل في الموضوعات التي تتعارض فيها المصالح والرغبات وركزت الفلسفة التشريعية على الصالح العام للمجتمع مع مراعاة الواقع الاجتماعي المتغير والمتطور. فلقد راعى الله سبحانه

وتعالى مصلحة عباده، فدعا الناس الى الاجتهاد في سبيل تحقيق ذلك… وتتجسد مصادر فلسفة التشريع في القرآن والسنة النبوية، وفي تجربة كل من الرسول والخلفاء الراشدين.

وافرزت فلسفة التشريع حضارة اسلامية بدأت بتأسيس الدولة الاولى، دور المدينة، وازدهرت عبر عدة قرون ميزت فيها الوطن العربي والعالم الاسلامي بخصوصية فريدة في التراث والثقافة والحضارة.

الاسلام المحجم- وفيه تراجع الاسلام عن حضارته وثقافته وتدهورت معالجة قضاياه، اذ ساد الاسلام في عهد الدولة العباسية حرفية التفسير التي منعت الحوار حول المعنى، وتشددت في الالتزام بحرفية النص، مما ادى الى غلق باب الاجتهاد، والاقتصاد على التقليد والتبعية، وتمثل ذلك في السلوك اليومي من حيث اعطاء الاولوية للمظهر على حساب الجوهر، وفي تكفير المعارضة وفي تسلط النظم والاعلاء من شأن القمة على حساب القاعدة كما ساد تبرير المعطيات، فنتبع عن ذلك هدم العقل وظهور مقدسات يحرم تناولها بالتفسير او النقد.. ولهذا توقف الحوار العلمي بتوقف العقل، وبدعم السلطة للقيادات اللاعقلانية كافة، وبسيطرة تلك التيارات على اسلوب الحياة.

ومناقشة مفاهيم الاسلام السابقة في مواجهة تحديات المجتمع تقودنا الى مناقشة المنطلقات الفكرية للاسلاميين في اطار معالجة التيار الاسلامي للقضايا المجتمعية، اذ تعتمد منطلقاتهم على ان اسلام الثقافة والحضارة والتي انقطعت عن حاضرنا بمرحلة التحجيم والاضمحلال التي سادت الحضارة الاسلامية، اي بمعنى اخر: ان ماضينا او تاريخنا ليس على خط واحد مع حاضرنا.. واذا قيل بان الفكر الاسلامي الحالي هو محاولة لاحياء مرحلة اسلام الثقافة والحضارة، فهذا القول مردود عليه بأن تلك المحاولة خاطئة من اساسها، لانها تحاول ان تجعل الماضي في مواجهة تنافسية مع الحاضر، في مراحل تاريخية تختلف في مشاكلها واهدافها المجتمعية عن مراحل الحاضر. وهذا يعني النظرة اللاتاريخية لثقافة وحضارة الاسلام، وعدم الاعتراف بالتاريخ والحضارة ودورها الاساسي كعنصر من عناصره التكوينية الاجتماعية والاقتصادية.

اما اذا قيل بأن الفكر الاسلامي الحالي يتبنى مقولات مرحلة التجميد والتحجيم… فهو قول اولى بالرفض والانكار، لأن فكر مرحلة الاضمحلال لا يتلاءم ولا يتناسب مع متطلبات مرحلة التغيير السريع ومشكلاتها، بل يمكن القول بأن استمرارية بعض المقولات الفكرية لمرحلة الاضمحلال لفترة طويلة قد ساهمت في عملية التخلف والتدني.

وفي هذا المجال اثيرت عدة تساؤلات من قبل بعض المفكرين العرب من قبيل: على اي نحو يكون التمسك بتراثنا الديني والثقافي والعربي ممسكاً لنا من الانهيار والهزيمة والدمار؟ والى الافكار التي يريدوننا ان نبعثها من اسلافنا بالامس؟ وما يمكن ان ينير امامنا الطريق؟

لقد كانت افكارهم وليدة مشكلاتهم فهل تكون مشكلاتنا هي نفس مشكلاتهم بحيث نهتدي بحكمتهم في اقتراح الحلول؟

نقول: انه من خلال الانتاج المادي وبالتفاعل بين البشر تظهر الافكار الاجتماعية والاتجاهات الاجتماعية، وتتشكل في اذهان الناس قيم هي علاقات بين البشر، علاقات واعية، فالناس فيها على بينة من انهم يؤثرون بعضهم في بعض من خلال السلوك المتبادل فيما بينهم، وانهم على غير وعي بالعلاقات الاقتصادية والاجتماعية.. ومن ثم تتشكل في اذهانهم افكار معينة.

وعليه، يجب على التيار الاسلامي ان يعيد فهم معاني الاسلام المختلفة التي اشرنا اليها. وقد يستدعي ذلك من التيار الاسلامي التركيز على قضايا الايمان والكفر والجهاد والقتال والتعايش السلمي. اي، يجب ان يعاد النظر في المسلمات المتعلقة بالمفاهيم القرآنية ودراستها من جديد على اساس من الفهم السليم الواعي بكل ما استهدفه القرآن الكريم من المفاهيم والنصوص القرآنية. لأن التيار الاسلامي الآن محصور في مجال المقولات السياسية الانقلابية، بغية قلب النظام السلطوي بطريقة راديكالية لاقامة الدولة الاسلامية على اساس ديني عقائدي.

اننا في الختام، نؤكد ان اطار طرحنا للتيار الاسلامي الحالي لا يعني اننا لا ندرك ولا نعي اوجه النقص والقصور لكل فكر وحركة في الاطار العام لأزمة الفكر التي يعيشها مجتمعنا العربي، ولا تعني ايضاً عدم ادراكنا للصعوبات التي تواجه المضمون المعرفي عالمياً، والتي تتراكم على فترات ومراحل التاريخ.. كما لا تعني اننا لا ندرك ان ازمة الفكر في المرحلة الآنية لا تخص المنطقة العربية بمفردها، وانما تمتد لتشمل مجتمعات العالم القريبة بهمومها منا. وهذا يعني من وجهة نظرنا ان هناك عوامل واسباباً اخرى خارجية وأكثر شمولاً في تفسير ازمة الفكر في هذه المجتمعات، الا ان التعرض لكل هذه القضايا المثارة يخرج عن نطاق هذه الدراسة، ولذلك اكتفينا بالمعالجة على مستوى خصوصية مجتمعنا العربي الداخلية ضمن الاطار العام.

[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات