18 ديسمبر، 2024 10:05 م

إعادة إجلاس تركيا على كرسي متحرك

إعادة إجلاس تركيا على كرسي متحرك

المؤسسات الأمنية كانت المحور الأول في خطة أردوغان. ضمان ولاء جهاز المخابرات العامة وانشاء قوات خاصة تابعة له، يكون ولاؤها لأردوغان شخصيا وليس بصفته الرئيس.

لم يعد أحد في حاجة إلى تجريب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. أردوغان من نوعية السياسيين المؤسسين وليس هؤلاء الذين عادة ما يتولون السلطة من أجل إدارة واقع قائم. الإحساس بالسمو فوق الآخرين، حتى ولو كانوا حكّاما سابقين، هو جزء من بارانويا تقود صاحبها إلى الاعتقاد بأنه قائد تاريخي جاء ليقود الأمة إلى مرحلة أفضل من تاريخها.

لا أحد يمكن أن ينكر على أردوغان ذلك. قبل وصوله إلى الحكم كزعيم لحزب العدالة والتنمية عام 2002 لم تكن تركيا هي تلك التي نعرفها اليوم. كانت بلدا آخر جاثيا على ركبتيه، ولا يستطيع الحركة بجسمه الضخم سوى على كرسي متحرك.

بعد توليه رئاسة الوزراء نقل أردوغان تركيا إلى أفق لم تصل إليه منذ تأسيس الدولة الحديثة عام 1923. اقتصاد قوي وجيش عملاق ومقصد سياحي عالمي وبنية تحتية راسخة وحركة استثمارات غير مسبوقة وقوة ناعمة عابرة للقارات.

كل هذا بناه أردوغان وحزبه. شيئان فقط هدمهما تماما: هوية تركيا العلمانية وتجربتها الديمقراطية.

إجهاض أي تجربة ديمقراطية راسخة ليس بالشيء السهل. الناس تعتاد على أن تقول ما تعتقده بحرية، وأن تضع أصواتها في صناديق الاقتراع وهي تعرف أن هذه الأصوات ستكون مؤثرة في تحديد مستقبل البلد. ليس من السهل قطع أواصل الأحزاب السياسية بقاعدتها المجتمعية، أو إجبار هذه القاعدة على تغيير ولاءاتها الأيديولوجية. الدخول في مواجهة مباشرة مع المجتمع لتطويعه هو عملية انتحارية.

أردوغان نفسه ذاق مرارة هذه التجربة خلال احتجاجات ميدان تقسيم في إسطنبول عام 2013. حينها تعلم درس أن إجهاض التجارب الديمقراطية في الدول الكبيرة لا يتم سوى عبر إخضاع مؤسسات الدولة أولا.

المؤسسات الأمنية كانت المحور الأول في خطة أردوغان. ضمان ولاء جهاز المخابرات العامة وانشاء قوات خاصة تابعة له، يكون ولاؤها لأردوغان شخصيا وليس بصفته الرئيس، كان الأولوية المتقدمة بالنسبة إليه. هاكان فيدان رئيس الجهاز أدى مهمته على أكمل وجه.

بعد ذلك جاء دور الاقتصاد. الإمبراطورية الاقتصادية التي يديرها رجال أعمال مقربون من أردوغان سلمت قطاعات التصنيع والسياحة والعقارات والطيران مباشرة له. فضائح الفساد التي ظهرت في تسريبات عام 2014 كانت كاشفة لدور نجله بلال، وصهره ووزير الطاقة بيرات البيرق في إدارة إمبراطورية اقتصادية عائلية شاسعة. رغم ذلك كانت هذه التسريبات مفيدة له أيضا.

الحادثة جعلت أردوغان يؤمن بأن الإسلام الاجتماعي، الذي يقوده فتح الله غولن، هو التهديد الوجودي الأكبر لخططه في التحول إلى “السلطان الحاكم بأمره”. فهم الإسلام السياسي أنه أمام معركة مع الوجه الآخر لنفس العملة التي يتاجر بها، وأن تصفية هذا الوجه باتت مسألة حتمية.

هنا جاء الدور على جهاز الأمن الداخلي. تسليم الشرطة إلى أفكان آلا الذراع اليمنى لأردوغان وتعيينه وزيرا للداخلية نقل ولاء الجهاز من الدولة إلى الرئيس. الدور الذي لعبته الشرطة لاحقا خلال محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في يوليو 2016 كان محوريا. في ظل انقسام وحدات الجيش في أنقرة وإسطنبول وأزمير، تمكنت قوات الدرك من مسك الأرض واعتقال قادة الانقلاب بسرعة. تم لاحقا نقل تبعية الدرك من الجيش إلى الشرطة، التي بات أردوغان يطمئن لها تماما.

الإعلام والجيش كانا حينها على وشك تسليم الراية لأردوغان. توظيف وسائل الإعلام التعبوي خلال مرحلة الانقلاب أظهر أن إمبراطورية غولن الإعلامية قد انتهت. لم يعد ثمة مجال بعد يوم 15 يوليو لأي تسامح مع أي رأي مخالف لأردوغان. هذا التوجه لم يكن سائدا فقط ضد وسائل إعلام المعارضة التقليدية، بل انسحب على مواقع التواصل الاجتماعي أيضا.

هذا اليوم كان اختبارا موازيا لولاء قيادة الجيش. خلوصي أكار، رئيس أركان الجيش الذي كان مختطفا حينها من قبل الانقلابيين، لم يكن وحده رجل أردوغان في القيادة العليا. تصرف أوميت دوندار، رئيس الأركان بالوكالة، عكس أهمية قصقصة أجنحة الجيش التي عكف عليها أردوغان منذ محاكمات عام 2009. هذه العملية الطويلة والمضنية جاءت بنتائجها أخيرا.

الجيش، مثله مثل الجامعات والمؤسسات الخدمية والتعليمية والطيران والشركات والمؤسسات الصحية، صار “نظيفا” تماما من رجال غولن. هذا هو الجيش الذي كان حاميا للعلمانية طوال ما يقرب من القرن. اليوم بات أكيدا أنه لم يعد كذلك.

بقي القضاء. هذه صارت مسألة وقت فقط. بعد إسناد صلاحيات تعيين القضاة وعزلهم، إلى جانب تعيين الوزراء وإصدار المراسيم بقوانين وحل البرلمان وإعلان حالة الطوارئ، باتت لأردوغان القدرة على تحويل كل هذه المؤسسات إلى مكاتب أختام على قراراته.

كما بدأ أردوغان بالنهوض بتركيا قبل نحو خمسة عشر عاما، يعيد اليوم إجلاسها على الكرسي المتحرك. ما عاد أحد يجرؤ على معارضة السلطان الجديد. حتى غولن، الذي حاول تعطيل تمرير التعديلات الدستورية عبر التحالف مع العلمانيين والأكراد، أدرك أنها النهاية.

رغم كل هذه النجاحات التي حققها، تعجّل أردوغان كثيرا. التعجّل هنا ليس في خطواته المتسارعة نحو فرض هيمنته، وإنما في عدم قدرته على فهم أن المجتمع التركي مازال يشكل حائطا إضافيا في وجهه. تخطي المثل العلمانية ليس بهذه السهولة التي كان يتوقعها. نتائج الاستفتاء المتواضعة كانت درسا لأردوغان، الذي لا يبدو أنه استوعبه.

اليوم يحكم أردوغان بلدا نصفه معه ونصفه الآخر ضده. الإسلاميون وجماعة بولت بهتشيلي من بين القوميين معه، والأتاتوركيون والليبراليون الاشتراكيون والأكراد والأقلية المسيحية وجماعة أوميت بوزداغ، من القوميين المتخوفين على تقسيم البلد إلى أقاليم، ضده. لم يكن هناك فرق كبير بين التصويت بـ”نعم” أو “لا”. النتيجتان لم تكونا لتفرقا مع أردوغان. “نعم” تحوله إلى سلطان دستوري، و”لا” تمكنه من الاستمرار في وضعه العادي كسلطان غير دستوري.

في الحالتين كنا سنشهد أكبر عملية إعادة هيكلة لجهاز الدولة الإداري والسياسي والعسكري والاقتصادي منذ عهد أتاتورك.

مدى قبول القوى العلمانية في المجتمع بهذا القدر المحتوم هو المؤشر على مستقبل تركيا.

لن يستغرق الأمر طويلا قبل أن يدرك أردوغان أن تصويت الشعب بـ”لا” على التعديلات كان أسلم له ولحزبه. أقله كانت النتيجة ستحافظ على هدوء الشارع والتعايش مع الأمر الواقع الذي كان قائما بالفعل.

التصويت بـ”نعم” سيحفز المعارضة ويعطيها وقودا جديدا يمكّنها من حشد الشارع ضده. أجواء تقسيم تلوح اليوم في الأفق. أردوغان وجد نفسه في مواجهة مباشرة مع المجتمع، بعدما تمكن من قفز حواجز كل مؤسسات الدولة.

تطويع كل قوى المجتمع هي المرحلة التالية التي سيعمل عليها الرئيس التركي. مرحلة الإجراءات والمؤامرات والدسائس انتهت.

جاءت مرحلة حرب الأيديولوجيا وصراع الأفكار. حان وقت تحطيم إرث أتاتورك، وسلخ تركيا من هويتها.

أسلمة تركيا ليست نزهة. سيكون على أردوغان فهم أنه يتلاعب بمصير البلد كله. إذا نجح فستتحول تركيا إلى إيران جديدة، لكن بصبغة سنية. إذا فشل فسينهار أردوغان، وستسقط تركيا حتى من أعلى الكرسي المتحرك.

نقلا عن العرب