ما أروع كلام أحد الرسامين المبدعين يقول:
(أنا أرغب أن أبدأ من الصفر بدلا عن الرقم (1) لأننا إذا نبدأ من الرقم(1) يتحدد اتجاه الأعداد: 2 و 3 و 4 و…و31 و…تلقائيا نحو القمة. أما الصفر فإنه مع كونه رقم محايد، هامد، خاو، لكن في الوقت نفسه بإمكانه التحرك نحو جميع الجهات. مع كونه لا شيء بإمكانه أن يصبح كل شيء).
بالتجربة أن أفكارنا، مشاعرنا لا يمكن أن تنقل مباشرة وحدسيا إلا في ظروف استثنائية. نحن مرغمون بشكل عام على استعارة وسائل تعبير تحول العوامل الرمزية إلى عامل مشترك تذوب في تنسيق من الحركات. بين الشيء والفكرة يقيم الرمز دليلا خياليا كما يفعل صانع ثياب المسارح الذي يكسو أفكارنا الأكثر جدة بثياب رثة مستعملة من أجيال مهرجة، مشوهة وفقا لضرورات الشخصيات التي جسدت فيها. الحقيقة التي تختفي وراء لباس التنكر، لا يمكن التعبير عنها. بين التسميات التجريبية التي ليس لها غير الكلمات أي اللباس الظاهري للأشياء، والواقعية الأفلاطونية التي تقوم على أساس كثافة الجواهر المستقرة، يلقي الرمز جسرا يحيي كل مظهر خارجي، يدل على مشاعر، معاناة الناس خلال مراحل مثيرة في الحياة منها المؤدية إلى النهضة.
لذلك، حينما يريد الباحث أن يلتقي بالحقيقة وجها لوجه، يتجه نحو تلك المبادئ الأخلاقية المتعددة التي اتخذت صورا مكتوبة، مرسومة، منحوتة..التي تترجم بطريقة واضحة عن الجانب الأكبر المدونات المجتمعية فيما بين الناس، شتى ضروب الأفكار والمخيلات الأساسية للفرد. أما تلك الأفكار التي لم يتم تسجيلها، الباحث يجد لها بعض الأصداء في الحكم المتواترة، الأمثال الشعبية، العرف غير المقنن، العادات المتواضع عليها، الاتجاهات السائدة في المجتمع، مما يعينه على معرفة خبايا الضمير الجمعي، هذا يضطرنا إلى تفهم المكونات التي تشكل تراث وحضارة المجتمع.على نحو ما يتمثل في الأفكار، المعتقدات، قواعد السلوك، العرف كذلك الإشتغالات اليدوية.
نصب الحرية لجواد سليم يتكون من أربع عشر مجموعة نحتية نفذها وأتم سبكها في فلورنسا، تحكي قصة الثورة كما براها الفنان بأسلوب يبتعد عن التجريد. للوهلة الأولى تبدو الرمزية الحيوانية، ثم تنتهي بالتقدم الصناعي، الذي ينعكس إيجابا على المجتمع في 14 عنصرا يحتمل تأويل ثورة 14 تموز أو حروف اسم الزعيم إلا واحدا مؤجلا أو غير ذلك مما يراه النقاد.
1ـ يبدأ بالحصان في أقصى اليمين حيث يبدو هائجا يحاول التخلص من الرجال الثلاثة الذين تشبثوا به. يسجل الفنان مشهدا حفر في ذاكرته، رآه صباح 14 تموز 1958 عندما تجمعت المظاهرات في بغداد حول تمثال الجنرال مود راكبا جواده كان مقاما خارج السفارة البريطانية وتمثال الملك فيصل على حصانه قرب دار الإذاعة. اقتلعت الجماهير الثائرة التمثالين وحطمتهما. صور الفنان هذا المشهد حيث الرجال الأربعة يمثلون المتظاهرين، ثلاثة يحاولون إسقاط الحصان بينما يرفع الرابع يديه يهم بنشر لافته تعلن بدأ ثورة 14 تموز 1958.
2ـ المجموعة الثانية: تمثل رواد الثورات الذين رفعوا أيديهم بالاحتجاج على كل أشكال الظلم منذ الثورة الفرنسية حتى ثورة العراق، يمثلهم رجل وامرأة في حركة عنيفة.
3ـ الباكية: وقفة يعرفها العراقيون عندما تحدث نكبة او كارثة، في التقاليد، العادات الشعبية تجعل المراة العراقية ترفع عباءتها وتلف بها رقبتها ونصفها الأعلى ثم تندب وتصيح(يبوه)، تماثلات في الفلكلور(النخوة).
4ـ تمثال الأمومة يؤكد إن الثورة تتولد بلا انقطاع جيلا بعد جيل.
5ـ مجموعة(الشهيد)الأم تحضنه، تبكي عليه، من حولها النساء معزيات، هي مشحونة بتعبير مأساوي عنيف.
6ـ المجموعة السادسة منحوتة الأمومة، يعيد الفنان التوازن الى عين المشاهد، يحيي الأمل في نفسه بعد تأمل فجيعة الأم في ابنها الشهيد، حتى تكون (الأمومة) و(الطفولة) على جانبي الأم الثكلى وأم الشهيد صوت الماضي القريب(يا ما هزيتي ولوليتي)وقفتين قبل الوصول الى منتصف اللوحة.
7ـ المجموعة السابعة للسجين: هنا تداخل القضبان مع الرجل المفكر وهو يطلق افكاره من خلف القضبان فينفذ منها فكرة عدم جدوى مصادرة حرية الفكر.
8ـ ترتبط مجموعة السجين السياسي بتمثال(الثورة)التي عبر عنها بجندي يقفز قفزة جبارة بعضلات مفتولة تحطم قضبان السجن، يدوس بقدمه ترس الشر.
9ـ يفتح الطريق لتمثال الحرية التي تبدو في شكل امرأة تحمل المشعل عاليا. لم يجعل لها قدمين !؟.. ان القدمين تلصقانها بالأرض، الفنان يريدها ان تحلق عاليا.
10ـ انتهت الأجزاء العنيفة الحركة لتبدأ التماثيل الهادئة حيث تؤدي الثورة الى السلام على شكل امرأة جالسة تمد يديها بالخير، كأنها تصلي بينما تنبت من جسدها وملابسها أغصان الشجر، تحط على كتفيها حمامتان.
11ـ الحادي عشر يعبر الفنان عن دجلة والفرات بامرأة يضللها النخيل تمثل دجلة، أخرى حبلى بالخير، محملة بالسنابل تمثل الفرات، بينهما صبية تحمل على رأسها خيرات الأرض، ترمز الى روافد دجلة والفرات. النهر
هو المبتلع الأقدم والأعظم، هو اللجة الأنثوية والأموية التي تشكل بالنسبة لثقافات عديدة أنموج الهبوط والعودة الى ينابيع السعادة الأولى والخصب الرافديني.
12ـ المجموعات الثلاث الباقيات تعبر عن الازدهار الفكري، الزراعي، الصناعي بعد استقرار الثورة. التعبير عنها فلاحان يقفان متماسكين يرمزان للعرب والأكراد رأسهما على النمط الآشوري.
13ـ خلف العنصر 12 الثور أحد رموز العراق الأسطورية.
14ـ الصناعة؛ العامل ممسكا مطرقته.
لخص فيها جواد سليم أفكاره وأحلامه في هذه المجموعة النحتية. لم يكن موت الزعيم، أو الفنان سوى نهاية لجسده اما فنه فقد بدا حياة عريضة خصبة من ذلك التاريخ والى الآن.