رغم التصريحات الكثيرة الصادرة من إقليم كوردستان حول الاستقلال والانفصال عن العراق , إلا أن جميعها لم تترجم إلى خطوات عملية طوال الأعوام الماضية , فقد كانت موجهة لخارج إقليم كوردستان أكثر من الداخل ولها أبعاد سياسية . ورغم أن الإقليم يؤكد دائما على أن هكذا قرار هو قرار كوردي لا يحق لأحد التدخل فيه والتأثير عليه , غير انه وحسب ما هو معلن من الأسباب فان عدم نضوج الظروف الدولية والإقليمية هو السبب الرئيس الذي يحول دون الذهاب بجدية نحو هذا الخيار .
أن المتابع للتطورات السياسية في المنطقة ومسار الأحداث فيها, يصل لنتيجة مفادها أن استمرار كوردستان في تسويف قرار الاستقلال قد يطيح بالكامل بهذا الحلم ويؤجله إلى عقود أخرى في انتظار احتمالية نضوج ظروف جديدة أخرى . فمن الواضح أن هناك جهودا دولية وإقليمية حثيثة للخروج من الوضع الحالي للازمتين السورية والعراقية, والدخول في مرحلة جديدة تعيد فيها الأطراف الدولية والإقليمية ترتيب أوراقها في علاقاتها مع الأطراف المحلية الفاعلة في الدولتين . وهكذا يستوجب على إقليم كوردستان دراسة الإمكانيات المتوفرة لديه للتحرك من خلالها , ودراسة أبعاد علاقاته الدولية والإقليمية , ومقارنتها بعلاقات دول المنطقة وإمكانياتها في دعم القوى المحلية في المنطقة .
لقد استطاع إقليم كوردستان خلال الفترة الماضية أن يكون فرس الرهان الرابح في العملية السياسية في العراق , إلا أن التطورات المتوقعة في هذا البلد قد لا تسنح له فرصة لعب هذا الدور في مرحلة ما بعد داعش , مقيدا حرية حركته ومرونة اتخاذه للقرارات التي تخص مستقبله ومصير شعبه ومن ضمنها قرار الاستقلال . فالعلاقة الجديدة بين أمريكا وإيران ستنعكس آثارها ايجابيا على حكومة بغداد ( الشيعية) وترفع من رصيدها كحلقة وصل لا يمكن الاستغناء عنها بين الطرفين , هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فان طبيعة العلاقات الأمريكية الإيرانية الجديدة ستسهم في بناء تفاهمات مشتركة حول مستقبل الوضع السني في العراق والذي تؤيده دول الخليج وتركيا , وذلك فان تدعم أمريكا استقرار العلاقة بين الطرفين والدفع بهما لإيجاد تفاهمات مشتركة بينهما حول شكل إدارة البلد سواء على شكل فدراليات أو في حكومات محلية تدار ذاتيا . وسط هذه العلاقات المتشابكة للأطراف الدولية والإقليمية والتقائهم في الساحة العراقية على أسس جديدة فان إقليم كوردستان سيكون أمام وضع يوجف عليه التعامل بحرفنة متناهية كي يبقى محافظا على المكتسبات السياسية التي ظل يحافظ عليها سابقا … هذا من جهة .
ومن جهة أخرى فنستطيع تلمس تغيير في الموقف الأمريكي تجاه إقليم كوردستان , وان كان طفيفا إلا انه يشير إلى إمكانية استفحال هذا الموقف مستقبلا , فأساس علاقات كوردستان مع كل من أمريكا والغرب وحتى دول المنقطة كان ينطلق من نقطتين اساسيتين أضيف اليهما نقطة ثالثة مؤخرا .. الأولى .. كان ملف الاقتصاد والنفط في إقليم كوردستان , والثانية .. فكانت تطابق التوجهات الأمريكية مع الرؤى الكوردية فيما يتعلق بالعراق وعدم وجود جسور ثقة بينها وبين المكونين الشيعي والسني العربيين , وأضيف اليهما مؤخرا النقطة الثالثة التي تمثلت بدخول كوردستان حليفا قويا في الحرب على داعش . لذلك فان انخفاض أسعار النفط
والتي يحتمل أن تستمر لسنوات عديدة , وإمكانية نشوء حلفاء جدد لأمريكا في العراق من المكونين السني و الشيعي , مع قرب القضاء على داعش , إضافة إلى أن المشاكل السياسية التي عاني منها الإقليم مؤخرا بعثت برسائل خاطئة إلى الطرف الأمريكي بان كوردستان ليست تلك المنطقة التي يمكن أن تكون مثالا للهدوء السياسي والاستقرار في المنطقة , كل ذلك يدفعنا للاعتقاد بان توجهات أمريكا إزاء كوردستان لن تبقى مثلما كانت عليها سابقا . وهناك بوادر للبرود في تلك العلاقة بعدم اكتراث أمريكا للازمة الاقتصادية الخانقة التي يمر بها الإقليم واقتصارها على إرسال خبراء ومستشارين للبحث حول إيجاد سبل للخروج منها .
اعتمادا على ما سبق فان عدم ذهاب الإقليم لخيار الاستقلال قبل طرد داعش من العراق سيكون خطا قاتلا , فعامل الوقت ليس في صالح إقليم كوردستان , والخيارات المتاحة أمامه لغاية اليوم قد لا تكون متاحة له بعد طرد داعش . وقد يقال بان الوضع السياسي والاقتصادي الحالي للإقليم لا يساعد على الاستقلال .. فنقول بان مبدأ أن يكون الانفصال بدون خسائر وبالتفاهم مع بغداد وبموافقة المجتمع الدولي قد اثبت عدم صحته وفشله . وكل الخسائر البشرية التي أعطته في حربها مع داعش , والخسائر الاقتصادية التي تكبدتها في صراعها مع بغداد كان الأولى أن تكون من اجل الاستقلال . وبدلا من الانتظار لضمان مواقف المجتمع الدولي ومن ثم الذهاب إلى الانفصال . يمكن الذهاب إلى خيار الاستقلال ومن ثم انتظار اعتراف المجتمع الدولي بها من هناك .
فان كان الإقليم يخشى سابقا من التضحية بمكتسباته الاقتصادية والمالية فان أسعار النفط العالمية قد أنهت هذا الخوف وأثبتت انه ليس لدينا اليوم ما نخسره , وإما أن كان التخوف من أن الاستقلال قد يؤثر على الموقف في الحرب على داعش , فان أمريكا قد دخلت هذه الحرب و ليس أمامها إلا الاستمرار فيه , وأي انتكاسة في هذه الحرب ستعتبر هزيمة لها وهذا ما لن تسمح به , وأمريكا تنسق اليوم مع وحدات حماية الشعب الكوردية في سوريا رغم إنهما ليسا على توافق سياسي .
نتصور أن اغلب الدول المترددة الآن بما فيها أمريكا سوف تعترف بكوردستان بمجرد إعلانها الانفصال عن العراق , خاصة وان هذه الدول تبحث لها الآن عن حلفاء مستقبليين في المنطقة , وقد يشهد استقلال كوردستان تنافسا أمريكيا روسيا لكسبها حليفة في لعبة توازن القوى في المنطقة وبمعطيات جديدة .