قصة حقيقية
في عام ٢٠٠٠ تم تعييني كأستاذ في كلية طب الأسنان في جامعة العلوم والتكنولوجيا في دولة الإمارات فرع مدينة العين . قضيت الأشهر الاولى لوحدي هناك من غير ان اصطحب عائلتي منغمسا في عمل دؤوب لا سيما وانه قد أسندت لي بعد فترة وجيزة مهام وكيل العميد اضافة الى قيامي بتدريس الطلاب اختصاصي الأكاديمي وهو أمراض وجراحة اللثة .
وعندما اقتربت العطلة الصيفية في عام ٢٠٠١ انجزت معاملة الإقامة الدائمية في الإمارات لزوجتي واثنين من بناتي ثم سافرت الى العراق للمرة الاخيرة ومكثت هناك لمدة شهر اصطحبت بعدها عائلتي في رحلة العذاب في سيارة الجمسي الى الاردن عبر الصحراء. وبعد ان مكثنا بضعة ايام هناك حجزت مقاعدنا على متن طائرة الخطوط الملكية الاردنية الى مدينة العين . كان مسار الطائرة من عمان الى العين فيهبط هناك من تكون وجهته النهائية مدينة العين ثم يصعد الى الطائرة من يروم السفر الى عمان حيث تكمل الطائرة رحلتها الى ابو ظبي ومن ثم تقفل عائدة الى عمان .
وعندما هبطت الطائرة في مدينة العين كانت الفرحة تملؤني انني لن أكون وحيدا بعد الان بل ستكون معي عائلتي بكل ما يحمله ذلك من استقرار نفسي يعينني على اهوال الغربة خارج العراق . توجهنا الى صالة الوصول وانتظرنا دورنا لختم الجوازات ووثائق الإقامة وحدثت المفاجأة المريعة ان جواز سفري قد اختفى من حقيبتي ..وبطبيعة الحال كانت جوازات سفرنا عراقية آنذاك ولا نمتلك غيرها… وجدت في حقيبتي جواز سفر زوجتي ملحق فيه جواز بناتي… أما جواز سفري فقد تبخر بقدرة قادر . أفرغت كل محتويات حقيبتي على طاولة قريبة وأفرغت جيوبي والحقيبة النسائية التي تحملها زوجتي… ولم اعثر على هذا الجني الملعون المختبأ في القمقم . اقترب منا احد رجال الأمن في المطار متسائلا بلطف عما يحدث فأخبرته ان جواز سفري قد ضاع وإني لا اعرف ماذا سأفعل . تفحص جواز سفر زوجتي والبنات فوجد ان كل شيء على مايرام فأخبرني انه سيعلم مدير أمن المطار كي يجد حلاً . وبعد دقائق وصل مدير الأمن وبعض مرافقيه وحين استمع مني عن عملي في الجامعة وتفحص إقامة زوجتي وجواز سفرها اخبرنا انه يخمن ان جواز سفري قد ضاع لربما في مطار عمان قبل صعودنا الطائرة . لكن الامر المخيف فعلا ان القوانين النافذة تسمح له ان يدع زوجتي وبناتي يدخلون الدولة اما بالنسبة لي فيجب ان يعيدني على أية طائرة مغادرة الى الاْردن باعتباري قدمت من هناك . وحينذاك تذكرت ما كان الفنان القدير يوسف وهبي يردده مع نفسه عند وقوع كارثة محتملة في أعماله الفنية وبطريقته المسرحية “يا للهول” .
ثم حاول مدير الأمن ان يهدأ من روعنا فأخبرني انه سيتصل بوزارة الداخلية لعل هناك ثمة حل اخر…. غاب لفترة بسيطة ثم عاد وعلى وجهه علامات خيبة الامل حيث اخبرني انه ليس بيده ثمة حل اخر سوى إعادتي الى الاردن حين يتم التأكد نهائيا انني لا املك جواز سفر لان القوانين متشددة في هذا الجانب . الحق يقال ان مدير أمن المطار الإماراتي هذا بملابسه الخليجية كان يفيض تعاطفا معي ومع عائلتي ولم يبدي اي غطرسة او تعالي لكن المشكلة انه لا يمتلك اي هامش للمناورة لانه ببساطة لا يمتلك صلاحية ادخال شخص الى أراضي الدولة بدون جواز سفر . كانت الدهشة مما يحدث تعقد لساني غير ان عقلي كان يعيد مشهدا بعد مشهد كيفية ختمنا لجوازاتنا في مطار عمان وكيف انتظرنا في صالة الانتظار في مطار الملكة عالية وكيفية صعودنا الى الطائرة…. فلم استنتج شيئاً غير مألوف في مثل هذه الإجراءات .
عندما كان مدير أمن المطار في العين يحدثني كان بصري يرنو من خلال زجاج صالة وصول المسافرين صوب الطائرة الاردنية التي اقلتنا ورأيت اخر المسافرين الى عمان يدخل جوف الطائرة والمضيفة تغلق الباب ثم رأيت عجلات الطائرة وهي تدور ببطء متوجهة صوب مدرج الإقلاع… وعلى حين غرة احسست وكأن تيارا كهربائيا قد سرى في جسدي حين خطرت لي فكرة ان هناك احتمالا ضعيفا انني لربما قد فقدت جواز سفري في الطائرة نفسها… فهرولت مسرعا نحو مدير الأمن الذي كان يمشي عائدا الى مكتبه فطلبت منه ان يمنحني فرصة اخيرة للمساعدة وذلك بأن يمنع الطائرة من التحليق وان يرسل من يفتش الطائرة لعل وعسى ان جوازي قد فقد هناك… فأجابني ان امر منع الطائرة من الإقلاع بدون سبب وجيه ليس بالأمر الهين كما وان تأخير الإقلاع قد يعرضه للمسائلة الشخصية . نظرت في عينيه بصمت داعياً الله ان يلين قلبه فيستجيب… وإذا به يقول لي بصوت كله عذوبة ” والله لخاطر العراگي اوگف الطيارة واليصير يصير” فألتقط جهاز اللاسلكي من يد احد مرافقيه مناديا برج المراقبة بمنع الطائرة من الإقلاع وهي في نهاية المدرج… ثم طلب من رجل أمن اخر ان يتوجه الى الطائرة فوراً في سيارة السلالم الخاصة بالصعود للطائرة وان يفتشها بنفسه ولاسيما في المنطقة القريبة من المقاعد التي كانت مخصصة لي ولعائلتي … وبعد حوالي عشرين دقيقة مرت علي كأنها عشرين سنة رأيت في الأفق البعيد رجل الأمن يهبط من سلم الطائرة ملوحا ذراعه اليمنى في الهواء وسمعت ضحكته المدوية من جهاز اللاسلكي يبشرنا بانه قد وجد الجواز على ارضية الطائرة تحت المقعد …لا بد ان جواز السفر قد سقط من حقيبتي سهوا حين فتحتها لأخرج منها كتابا كنت اقرأه اثناء الرحلة .
حين عاد رجل الأمن تفحصت الجواز وكأني اتفحص عزيزا غادر الحياة الا ان العناية الإلهية قد نفخت فيه الروح ثانية . التف حولنا بقية موظفي المطار مهنئين بأنتهاء هذه الأزمة … صافحتهم جميعا بمودة بالغة ولاسيما مدير الأمن الذي كان وجهه ينطق بفرحة غامرة … وعندما كنت اجتاز بوابة الخروج من المطار مصطحبا عائلتي شكرت الله سبحانه وتعالى على لطفه بأن أرسل لي مدير الأمن هذا الذي غرس الله في قلبه حب العراق والعراقيين فتفانى في استخدام صلاحياته كي يعينني في محنتي هذه .
اما زوجتي فقد أطلقت علي بعد هذه الحادثة لقب “ابو البلاوي” تناغما مع مسلسل تلفزيوني اُذيع في نهاية الثمانينات من بطولة الفنان الراحل المرحوم خليل الرفاعي… والى يومنا هذا أصبحت هي مسؤولة الاحتفاظ بجوازاتنا كلما سافرنا سوية .. كي لا أفقدها من جديد … فأصرخ بوجع “يا للهول” .
[email protected]