في هذه المقالة نستمر في عرض بقية أمثلة المنهج:
د) كمثال آخر عن المنهج رقم 4 نذكر عن كتاب لوكسنبرغ (ص102 – 121) تفسير للآية 24 من سورة مريم:
(فناداها من تحتها ألّا تحزني قد جعل ربّك تحتك سريا).
يشير لوكسنبرغ في بداية شرحه إلى السيوطي (1445 – 1505 م) الذي يذكر عن أبي القاسم في كتابه “لغات ألقرآن” وعن الكرماني في كتابه “العجائب” بأنّ (تحت) كلمة نبطية (وهي لغة الأنباط السريانية أو مزيج من العربية والسريانية) تعني البطن (بمعناها السرياني جنين).
ولم يأبه المستشرقون لهذا الشرح معتبرين بأنّ تحت في اللغات الارامية والعبرية والسريانية والحبشية لا تختلف عن معناها العربي بشيء. ولم يرد في تفسير الطبري اي شك عن معنى تحت ما خلا التساؤل عمّا إذا كان الذي نادى مريم من تحتها جبريل أم عيسى (عليع السلام) ، بينما اختلف أهل التأويل في تفسير سريا ، فأعتبره الطبري جدول ماء ، داعما ذلك بقوله تعالى (فكلي وأشربي) (ألآية 26).
وأيد المفسرون الغربيون هذا المفهوم بالإشارة إلى مقطع من إنجيل منحول منسوب إلى متى ورد فيه بانّ عيسى (عليه السلام) لدى هربه مع أمه مريم إلى مصر طلب من النخلة ، حيث لجأ للإستراحة أثناء عبورهما الصحراء ، أن تفتح جذورها لتخرج ماءا وتروي ظمأ أمه.
وأعتبر المفسرون الغربيون هذه الرواية مطابقة لما ورد في القرآن إثباتا لكلمة سريا بمعنى الجدول. ويرى لوكسنبرغ بأنّ المفسرين شرقا وغربا قد أخفقوا في محاولاتهم لتوضيح هذه ألآية لإعتمادهم على مجرد اللغة العربية اللاحقة من ناحية ولإستشهادهم بنص بعيد عن مفهوم النص القرآني من ناحية اخرى.
وفي شرحه المفصّل لكلمة (تحت) يشير لوكسنبرغ إلى أنّ لا أصل لها في العربية وأنّها مشتقة من الفعل السرياني (نحت) (يلفظ نحث وبمعنى نزل وأنحدر) المشتق منه الفعل العربي نحت المفهوم منه نحت الحجر وغيره لتسويته أو صقله ، وألمراد منه سريانيا تنزيل ما زاد منه ، ومنه النحاتة أي مانزل من كسارة لدى النحت. وقد ورد هذا التعبير بالمعنى المجازي في بيت للشاعرة الخرنق ، أخت الشاعر طرفة (حوالي 538 – 564 ) ، ونصه:
الخالطين نحيتهم بنضارهم / وذوي الغنى منهم بذي الفقر.
يلاحظ لوكسنبرغ بأنّ لسان العرب أخطأ بشرحه معنى النحيت بالدخيل على قوم لعدم فهمه أصل فعل نحت السرياني بمعناه المجازي ، مع أنّ تعبير النضار (أي الاشراف) يوضح المعنى المناقض للنحيت الذي يعني بالسريانية الوضيع الاصل ، القليل الحسب والنسب ، كما يتضح هذا النقيض من خلط ذوي الغنى منهم بذوي الفقر.
وتمهيدا لقراءة الرسم القرآني (تحتها وتحتك) بمعنى البطن (أي الجنين) المنسوب إلى النبطية بحسب السيوطي نقلا عن أبي القاسم والكرماني ، ينفي لوكسنبرغ هذا المفهوم ، إلّا أنّه يرى له علاقة بالمقصود به إذا قرأنا بدلا من (تحتك) نحتك بلفظ نحاتك بمعنى وضعك أو توليدك بألسريانية.
وإثباتا لهذا المعنى يشرح لوكسنبرغ بأنّه علينا أن نفهم حرف (من) ليس بمعنى ظرف المكان العربي (من تحتها) بل بمفهوم ظرف الزمان السرياني (من نحاتها) أي حال وضعها.
ويثبت هذا المعنى السرياني لحرف(من) قولك في الدارجة: (من وصلتي قلتله) أي حال وصولي قلت له.
وتوضيحا لشرحه تعبير النحات بمعنى الوضع أو التوليد ، يلاحظ لوكسنبرغ بأنّ هذا المفهوم لم يرد في المراجع السريانية ، وإنّما ورد مرادف له وهو (نفل) أي هبط وسقط في مرجع آرامي آخر بمعنى الوضع أو التوليد غير الطبيعي أو ألفائق الطبيعة بخلاف الولادة الطبيعية.
ولمّا لم يرد في القرآن سوى ولد ووضع للتعبير عن التوليد أو الولادة الطبيعية ، ينبّه لوكسنبرغ إلى أهمية تعبير النحات الذي لم يرد في القرآن إلّا في هذه ألآية تعبيرا عن ولادة عيسى (عليه السلام) غير الطبيعية أو الفائقة الطبيعة مميزا إياه عن ولادة أي مخلوق آخر ، وألمعنى الحقيقي للنحات هو التنزيل ، وربما كان المراد به تنزيلا من ألعلا.
ويرى لوكسنبرغ في هذا المقطع من سورة مريم وبألاخص في هذا التعبير أصطلاحا لاهوتيا ذا أهمية قصوى بألنسبة إلى تاريخ الاديان.
إستنادا إلى ما سبق يكون مفهوم المقطع المذكور :
( فناداها حال وضعها ألّا تحزني قد جعل ربك وضعك سريا ! ).
لإيضاح معنى (سريا) المختلف عليه ، يباشر لوكسنبرغ بنقض ما حاول المفسرون شرقا وغربا فهمه بمعنى (جدول الماء) ، مشيرا إلى أنّ استناد الغربيين إلى المقطع المذكور من إنجيل منحول منسوب إلى متى لا يأخذ بعين الإعتبار النص القرآني.
فإنّ أمر الطفل عيسى (عليه السلام) النخلة بتفجير الماء لإرواء ظمأ أمه ، بحسب هذا الإنجيل ، فالسبب يعود إلى انقطاع الماء في الصحراء المجاورة.
أمّا في النص القرآني فالوضع يختلف تماما. فهتاف مريم (ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا) (ألآية 23) لم يأت عن خوف منها من الموت عطشا ، بل بألأحرى عن يأسها لإتهامها بصورة غير مباشرة بألحمل الحرام كما يتضح ذلك من ألآية 28 : (يأخت هارون ما كان أبوك أمرأ سوء وما كانت أمك بغيا) ، ولنبذها لهذا السبب من بيت أهلها وفقا للآية 16: (وأذكر في ألكتاب مريم إذ أنتبذت من أهلها مكانا شرقيا).
ويشرح لوكسنبرغ فعل أنتبذت بمعنى طردت من (قبل) أهلها بصيغة المجهول وفقا للنحو السرياني الذي يجيز إستعمال المجهول مع ذكر الفاعل بخلاف النحو العربي الذي وضعت قواعده فيما بعد على يد أعاجم لم يلمّوا بأصول لغة القرآن.
ويشير لوكسنبرغ إلى مقاطع أخرى في القرآن ورد فيها الفعل المجهول مع ذكر الفاعل بواسطة حرف (من) ، منبّها إلى أنّ ألقرآن لا يخضع لقواعد العربية اللاحقة وأنّه على الباحث أن يأخذ بعين الإعتبار قواعد السريانية التي تفتح لنا أبعادا جديدة لفهم لغة القرآن ومعانيه.
ثم يردف لوكسنبرغ في شرحه لما أتهمت به مريم بأنّه لا يعقل أن يكون أول كلام وجهه إليها أبنها حال ولادته للتخفيف عن يأسها عبارة عن (جدول ماء) جعله ربها (تحتها). إنما المنتظر أن يكون في كلامه لها عزاء يناقض إتهامها بألحرام لإزالة هذا العار عنها.
ولما كان نقيض أبن ألحرام ( وفقا للكلام الذي مازال دارجا ) أبن الحلال ، يثبت لوكسنبرغ بالمراجع السريانية بأنّ الرسم القرآني (سريا) يلفظ سريانيا (شريا) من فعل شرا (أي حلّ) وتعني ألحلال. وعليه وجب قراءة ألآية كما يلي :
(( فناداها من نحاتها ألا تحزني قد جعل ربك نحاتك شريا )).
كما وجب فهمها وفقا للعربية ألمعاصرة كالتالي :
((( فناداها حال وضعها ألا تحزني قد جعل ربك وضعك حلالا ))).
في المقالة القادمة سنتطرق إلى بقية أمثلة المنهج.