يبدو ان ايران تعاني من عقدة تاريخية حيال أي صراع ( سياسي او عسكري) بينها وبين دول الخليج العربي . فالمتابع للتاريخ قديما وحديثا سيلاحظ بان كل الصراعات التي نشبت بين الطرفين كانت نتيجتها على حساب الطرف الايراني , بدأ من معركة ذي قار التاريخية ومعركة القادسية , ووصولا الى ازمة البحرين قبل سنوات , وازمة الحوثيين في اليمن , واخيرا ازمة اعدام الشيخ نمر النمر . فكلها تمثل انتصارات سياسية وعسكرية للطرف الخليجي على حساب ايران , وما التخبط الايراني في التعامل مع الازمة الاخيرة الا نتاج هذه العقدة التاريخية .
فرغم الحكمة والخبث السياسي التي اتسمت بهما الدبلوماسية الايرانية طوال العقود الماضية , الا ان تحركها السياسي في التعامل مع الازمة الاخيرة مع المملكة السعودية اتسمت بعبثية الارتجال وخطوات غير محسوبة قد تكلفها الكثير في الفترة القادمة . فقد حاولت ايران استثمار اعدام الشيخ نمر النمر في المملكة العربية السعودية واستغلاله لكسب نقاط سياسية تجعلها في موقف اقليمي اقوى , غير ان حرق القنصلية السعودية في مدينة مشهد الايرانية عكست كل الحسابات , لتتلقفها المملكة السعودية وتبني عليها مواقف حازمة بدات بقطع العلاقات الدبلوماسية مع ايران وتوجه دول عربية واسلامية اخرى لتبني نفس الموقف , ومن المؤكد ان الامور لن تقف عند هذا الحد .
ان الصراع الطائفي الذي نبهنا اليه منذ بداية ثورات الربيع العربي وصل اليوم الى فصوله المتقدمة , ليدخل الى مرحلة كسر العظم , بين ايران وتوابعها من جهة , وبين المملكة العربية السعودية والدول السنية من جهة اخرى . وهذا لا يعني صراعا عسكريا مباشرا بين الطرفين ولكن بالتاكيد سنشهد انحسارا وضعفا واضحا لطرف مقابل الاخر . ومن قراءة المواقف الاخيرة الطرفين يظهر لنا ان الموقف السعودي السني بات اكثر حزما وتصلبا حيال ايران من أي مرحلة سابقة , يقابله موقف ايراني ضعيف يحاول امتصاص التوتر الحالي وممارسة الدبلوماسية الناعمة يتغاضي تماما عن سبب الازمة الرئيسي وهو اعدام المدان نمر النمر .
وهنا علينا ان نتسائل … ما هو سبب هذا اللين الايراني والتصلب السعودي في هذه الازمة والى اين ستتجه الامور ؟
لا يخفى على المتابع ان ايران تعيش اليوم فترة ضعف شامل لم تمر بها منذ حربها مع العراق ثمانينات القرن الماضي . فقد انهكت في حروب اقليمية استزفت اقتصادها بشكل كامل … فمن دعمها لحزب الله اللبناني منذ عقود , الى دعمها لمليشيات تابعة لها في العراق , ثم تدخلها في الحرب الداخلية في سوريا طوال السنين الماضية , والاستنزاف الغير مباشر لاقتصادها في دعمها للحوثيين في اليمن , والحرب التي تشنها في العراق ضد داعش لاكثر من سنة .. , اضافة الى الحصار الاقتصادي الذي تعانيه منذ سنوات من قبل المجتمع الدولي , وانخفاض اسعار النفط في السنة الماضية , كل هذا تسبب في استنزافها عسكريا واقتصاديا بشكل كامل . لذلك فهي الان ليست بالموقف الذي يسمح لها الدخول في صراع جديد مفتوح على كل الاحتمالات , وتوقيت الازمة الحالية ليس من صالحها بكافة المقاييس . ولذلك فهي تحاول تجاوز هذه الازمة وابقاء موازين القوى في المنطقة على وضعها الحالي , بغية التقاط انفاسها قبل الدخول في أي صراع مستقبلي محتمل يحدث بينها وبين هذه الدول .
اما فيما يتعلق بالطرف السعودي – السني فهو يدرك جيدا بان ايران ومليشياتها تمثلان تحديا جديا ومستمرا له في المنطقة , وانه لابد من استثمار الضعف الايراني الحالي لتحجيمها وتطويق طموحها التوسعي , واي تعافي لها من ازماتها الاقتصادية والعسكرية الحالية قد يعني فقدانا لفرصة ذهبية لن يكون بوسعه تعويضها مستقبلا . لذلك فهو سيستمر في الضغط والذهاب الى نهاية الطريق في الازمة الراهنة .
وعندما نقول بالذهاب الى اخر الطريق فهذا لا يعني بالضرورة حدوث صدام عسكري معها , فهذا خيار مستبعد في المرحلة الحالية على الاقل , فهناك خيارات اخرى كثيرة يمكن للدول السنية العمل بها . وحسب توقعنا فان التركيز في المرحلة القادمة سيكون على المليشيات التابعة لايران في المنطقة , والتي تطوق دول الخليج جغرافيا , سواء في العراق او لبنان وسوريا وحتى في اليمن , ويشكل تهديدا حقيقيا لها . واذا ما
ارادت دول الخليج الذهاب لهذا الخيار فان عليها حشد المجتمع الدولي كي يصنف هذه المليشيات كمنظمات ارهابية يستوجب محاربتها دوليا , وهذا سيفقد ايران اوراق مهمة تعتمد عليها في طموحها التوسعي . ويظهر ان بوادر هذا التركيز قد بدا بتصريحات تيار المستقبل اللبناني قبل ايام حول تهديدات حزب الله لزعيمه ومقارنة هذه التهديدات بالتهديدات التي سبقت مقتل رفيق الحريري , اضافة الى الكشف عن شبكات مرتبطة بالحرس الثوري الايراني كانت تستعد للقيام بعمليات ارهابية في البحرين .
كذلك يمكن اللجوء الى خيار التنسيق بين التحالف الاسلامي بقيادة المملكة العربية السعودية وبين التحالف الدولي ضد داعش للمشاركة في عمليات تحرير مدينة الموصل , وادخال جيوش الدول ( السنية) لتلك المناطق خاصة وان الارضية مهيئة هناك بوجود مسيق للقوات التركية فيها , والتي تعتبر حلقة وصل مشتركة بين التحالفين . ان وجود هكذا تنسيق سيمنع الحكومة العراقية من ابداء أي اعتراض عليها , وستمنع المباركة الدولية ايران من اتخاذ موقف رسمي مضاد لهذا التواجد . عند ذاك فان المليشيات الشيعية سيكون امامها خيارين , اما الانسحاب الى المناطق الجنوبية ذات الاغلبية الشيعية واما التصادم المباشر مع المجتمع الدولي والانتحار .
عموما فان تنامي حدة الازمة بين ايران والدول السنية في المنطقة لن تتعدى الاحتمالات التي ذكرناها ( على الاقل في المستقبل المنظور ) , وبالمقابل فان الازمة لن تطوق الا اذا قررت ايران الهروب الى الامام والقيام بتنازلات كبيرة للاطراف الاقليمية سواء في الملف السوري او في التخلي عن مليشياتها المسلحة وتغيير سياساتها التي ترمي الى اثارة القلاقل في دول المنطقة .