كشف قبل بضعة ايام وزير الداخلية لفضيحة صناعة وزارة الصناعة للدروع التي قامت ببيعها لوزارة الداخلية بسعر ربع مليون للدرع الواحد بعدد يتراوح المئة الف كدفعة اولى ولكن لم تُسلط الاضواء عليها بشكل مكثف انما مثلها مثل أي قضية اخرى تم التعامل معها بشكل قوي في بادئ الامر ثم تنسى بعد بضعة ايام وكأن شيئاً لم يكن ما عدى معاقبة عدد قليل من المتورطين في الصفقة الفاسدة وانتهى الامر.
ولا نريد هنا ان نناقش موضوع الصفقة نفسها فقد اوضح وزير الداخلية ماهي حقيقة هذه الدروع التافهة التي لا تمثل الا قطعة صفيح بسيطة مغلفة بقطعة قماش وهي بذلك لا يتعدى ثمنها العشرون الفاً من الدنانير العراقية فقط لاغير. كما ان اسقاطات هذه الصفقة التي مثلت فضيحة كبرى في تاريخ عراق ما بعد صدام اخذت تتكشف للعيان، فلابد انها تسببت باستشهاد اعداد غير قليلة من مقاتلينا الاعزاء من جهة وساهمة بتقوية جانب العدو الداعشي البعثي السعودي التركي الاسرائيلي من جهة اخرى وهو الامر الذي لا يعد خيانة عظمى فقط بل خيانة عظمى مركبة كما هو واضح من سياق الفضيحة. فهي لم تؤدي الى اضعاف البلد فقط وليس الى تقوية العدو او امداده بمعلومات على شاكلة الادوار التجسسية مثلاً بل الاثنين معاً. وملاحقة امر الفضيحة والمتسببين بها والمنتفعين منها امر مكفول باجراءات الجهات القضائية ومتابعتها لها.
انما الامر الاشد اهمية واعظم شأناً والذي يعنينا هنا، هو الجانب الاخر من القصة والذي افصح عنه وزير الداخلية بكل الم وحرقة وهو يصف معاناته التي واجهها في هذا الامر، حيث ذكر وبالحرف الواحد ان هاتفه لم يتوقف عن الرنين من قبل شخصيات متنفذه في الدولة تطالبه بغلق الموضوع، وان ما يزيد الطين بلة وهي المرارة النكداء فيه ان بعض المتصلين به هم من اقرب الاصدقاء له وقد فقدهم لشدة زعلهم عليه كما عبر هو عن ذلك لانه لم يستجب لرغباتهم.
نعم هذه هي الطامة الكبرى والابعاد الاشد خطورة في هذه الفضيحة اضافة الى ما مر ذكره اعلاه. فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا، من هم اصدقاء الوزير المقربون لديه وما هي الشخصيات الاخرى التي تتبوأ مناصب في الدولة؟.
ان موضوع تدخل اناس لغلق امر جلل بهذا المستوى وتبني هكذا اسلوب بكل اصرار هو فساد من شانه هدم اركان الدولة برمتها، لهذا يعد خيانة عظمى ومضاعفة دون ادنى شك. هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى ان بشراً كهؤلاء يجوّزون لانفسهم الدفاع عن هكذا جريمة بمستوى الخيانة المركبة العظمى لايمكن الا ان يكونوا قد تلطخت اياديهم او ان لديهم الاستعداد على اقل تقدير لمزاولة هكذا جرائم والولوغ في جرائم فساد قد تزداد شدتها او تقل بمستوى خيانتها لكنها تبقى ضمن الاستهانة بمقدرات البلد خدمةً لمصالحهم الضيقة الخسيسة دون وازع من ضمير او خوف من رادع لهم.
لهذا فان صرخة وزير الداخلية هذه ما هي الا جرس انذار لكل عراقي مهما قل او علا شأنه في هذا البلد ليأخذ دوره في التصدي لهؤلاء المجرمين والقضاء على ظاهرة المافيات الخطيرة التي تسيطر على مقاليد الامور فيه ومن اهم هذه المفاصل هو السيطرة على العقود التي تبرم مع دوائر الدولة صغيرها وكبيرها.
واخيراً فانني ارى ان الحل الانجع للقضاء على هذا الفساد الرهيب هو ان ينصب العمل على تواجد حكومة ظل تراقب ممارسات هؤلاء الخونة مهما كان شأنهم ومناصبهم وعدم الاكتفاء بتعريتهم امام الرأي العام فقط بل بالاستمرار بملاحقتهم قانونياً عبر مؤسسة قضائية نزيهة مئة بالمئة ولا يتم الركون الى مجلس النواب الذي اثبت ولائه الى الجهات والاحزاب والجهات الساندة له وهو الامر الذي ادى بالعراق الوصول الى هذا المستوى الهابط من الفساد والافساد الذي لم يشهد التاريخ له مثيلاً، على ان يتم التنسيق بشكل واضح ومفهوم ومحنك بين حكومة الظل هذه وهيئة النزاهة والمرجعية الرشيدة وتقوم باطلاع الشعب بشكل مستمر ومنظم على ما تقوم به وما يحصل لديها من معلومات مستجدة. وليس من الضروري ان تمثل حكومة الظل هذه بمجموعة من الشخصيات الرسمية او النواب انما باستطاعة شريحة واعية من الوسط الجماهيري القيام بذلك.
فلو انعم الله علينا ببرلماناً نزيهاً حريصاً على مصلحة العراق ولايتكلم الا باللغة الوطنية ملتزماً بمسؤولية المراقبة الحقيقية التي هي اهم مهامه الدستورية التي تشكل من اجلها لما تبقى في العراق الا الجزء اليسير من الفساد الذي لايمكن ان يسيطر عليه كتدخل بعض المسؤولين لدى مسؤولين آخرين لنقل موظف او مساعدة احد اقاربهم لتعيينه في موقع بسيط مثلاً.. الخ، حيث انها امور دأب عليها البشر في كل بقاع الارض ولا تؤدي الى سقوط هيكلية دولة كما هو حاصل في العراق فهي امور تعد ضمن نطاق الحد المسموح به. فهنالك في كل القوانين والهياكل المؤسساتية حد مسموح به من التسامح والتعاون لتسيير امور البشر فلا كامل الا الله ولابد من وجود مساحة لامتصاص القدر البسيط من الانانية او المصلحة الذاتية التي لايمكن للبشر التخلص منها وهو امر يساهم في استمرار معيشتهم بالشكل المعقول الذي لا يؤدي الى زعزعت الثقة او ضياعها في الوسط الاجتماعي. والله تعالى من وراء القصد.